طغت الهموم العربية اليومية، وما أثقلها، فغطت على حدث استثنائي بات نادراً في الحقبة الاخيرة، هو نجاح الصواريخ السورية في اسقاط الطائرة الحربية الاسرائيلية، اميركية الصنع، الـ”اف 16″، فوق الارض الفلسطينية محترقة، وقد أصيب احد طياريها بجراح قاتلة، فيما كانت جراح الثاني “خفيفة”..
ولقد اجتهدت دوائر الحكم الاسرائيلية في محاولة تعظيم الدور الايراني في اسقاط الطائرة الحربية، لكن ذلك لم ينفع في طمس الحقيقة حول هذا الحادث الخطير والأول من نوعه منذ آخر مواجهة سورية مع الطيران الحربي الاسرائيلي في العام 1982، وكانت نتائجها كارثية على الطيران السوري.
وإذا كانت جولة وزير الخارجية الاميركية ريكس تيلرسون في المنطقة غطت على أخبار الانتكاسة الجوية الاسرائيلية، فان تصريحاته التي اختلفت نبرتها في بيروت عنها في عمان، لا سيما في سياق اشارته إلى دور “حزب الله”، واستطراداً إيران، قد أكدت قلق واشنطن من هذا التطور الميداني، برغم انشغال سوريا، جيشاً وشعباً، في الحرب فيها وعليها.
في هذا السياق يمكن أن نلحظ ارتفاع نبرة المسؤولين اللبنانيين في اشارتهم إلى محاولة اسرائيل تعديل الحدود البحرية مع لبنان بما يمكنها من سرقة نفطه وذلك بمط “حدودها” لتشمل البلوك 9 من المنطقة النفطية على الساحل اللبناني، الذي يشكل بطبيعة الحال، امتداداً للساحل الفلسطيني، والسوري والقبرصي حتى حدود مصر البحرية.
كذلك لا بد من التنبه إلى اهداف الحملة التركية على اكراد سوريا بعنوان عفرين والتي يتأكد يوماً بعد الآخر انها قد تستهدف شمال شرقي سوريا، ومحافظة ادلب المتاخمة لحلب من جهة واللاذقية من الجهة الاخرى، مما يمكن تركيا من دخول البازار الدولي المفتوح حول سوريا ما بعد الحرب..
يتصل بذلك ما كشف عن وجود عسكري اميركي يتخذ من الاكراد ستاراً “لاحتلال” بعض المناطق في سوريا، انطلاقاً من مدينة الرقة التي اجتاحها الاكراد تحت العلم الاميركي، مع تقدم الميليشيات والتنظيمات متعددة القومية والولاء في قلب محافظة الجزيرة وصولاً إلى آبار النفط والغاز في منطقة دير الزور وسائر انحاء البادية السورية على الحدود مع العراق.
انه احتلال اميركي مدفوع التكاليف للمنطقة التي تصل وتفصل بين الدولتين العربيتين، العراق وسوريا، والاكراد فيها مجرد مطية او ذريعة للجم التقدم العسكري التركي بل الانتقام التركي من الاكراد تحسبا لأي تحرك مضاد وأقوى لأكراد تركيا ضد نظام الحكم فيها، بما يؤثر ـ بحسب منطق النظام فيها ـ على وحدة تركيا.. أما وحدة الارض السورية، او الارض العراقية فمسألة فيها نظر حسب المنطق التركي.
في هذا السياق تأتي زيارة وزير الخارجية الاميركية لأنقره، خصوصاً وان العلاقات بين البلدين الحليفين تشهد منذ فترة توتراً يتزايد حدة، وبين مؤشراته التصريحات العنيفة التي أطلقها الرئيس التركي رجب طيب اردوغان والتي اتهم فيها واشنطن بالتآمر على انقره والتعامل معها “كتابع” وهو ما ترفضه ومستعدة للرد عليه مهما بلغت أكلافه.
*****
لم يكن اسقاط الطائرة الحربية الاسرائيلية حادثاً عارضاً، بل هو قد فتح ابواب الذاكرة على وقائع الصراع المفتوح، بعنوان فلسطين اساساً ومعها سائر الاراضي العربية التي ما تزال اسرائيل تحتلها، وبينها الجولان السوري المحتل ومزارع شبعا في لبنان الخ..
ولقد جاء هذا الحدث، بتوقيته، رداً على تجاوز العديد من الدول العربية حواجز المقاطعة مع العدو الاسرائيلي… وبينها زيارة الوفد البحريني، بذريعة التبرك بالمسجد الاقصى، ثم ـ اخيراً وليس اخراً ـ زيارة وزير الخارجية العماني بذريعة مساندة “السلطة” الفلسطينية والتبرك بالأقصى ومعه مسجد عمر بن الخطاب.
هذا اضافة إلى كسر حاجز العداء بين السعودية ومعها دولة الامارات مع الكيان الاسرائيلي، من دون أن ننسى أن لقطر سفارة لدى دولة العدو… وقطر كانت السباقة في اقامة مثل هذه العلاقة المحرمة، وبذريعة حماية ارضها من الاجتياح السعودي في التسعينات من القرن الماضي..
*****
في هذا السياق، ايضاً يجري الحديث عن قمة اميركية خليجية..
ويبدو أن واشنطن قررت أن تتدخل مباشرة لفض الخلاف المحتدم بين السعودية ومعها البحرين ودولة الامارات من جهة، وقطر من جهة أخرى، في حين حرصت الكويت كعادتها دائماً ـ على لعب دور الوسيط، فرحبت الدوحة في حين رفضت الرياض وابو ظبي..
واضح أن واشنطن هي المستفيد الاعظم من هذا الخلاف المحتدم بين حلفائها من أهل النفط وحليفها من اهل الغاز.. ولقد باعت خلال الشهور القليلة الماضية صفقات مجزية من السلاح للطرفين، كما عززت وجودها العسكري في كامل منطقة الجزيرة والخليج.. مستخدمة دائماً الذريعة الايرانية، ثم انشقاق الاخوة على بعضهم البعض.
ومؤكد أن واشنطن تبتز الدول العربية النفطية عموما، مفيدة من انشغال مصر بذاتها، وطغيان الهموم الداخلية على القرار السياسي العربي عموماً. وللتذكير تمكن الاشارة إلى أن الكويت قد تبرعت بعقد مؤتمر عربي ـ دولي لجمع التبرعات، قروضا بفوائد لسد العجز في ميزانية العراق الذي هدمته الحروب عليه، سواء في عهد صدام حسين، او عبر الاحتلال الاميركي، أو عبر القتال الطويل والمكلف لإلحاق الهزيمة بـ”داعش” التي كانت قواتها قد احتلت اكثر من نصف مساحة ارض الرافدين..
لكن المؤتمرين، وفيهم دول عربية غنية ودول عظمى حليفة، وملوك النهب الدولي، لم يقدموا ـ او انهم لم يعدوا الا بثلاثين مليار دولار من أصل ثمانين مليار كان يطلبها العراق.
*****
إذن، فان سوريا غارقة في دماء اهلها نتيجة الحرب فيها وعليها.. وبرغم تعدد مؤتمرات المصالحة، وآخرها ذلك الذي عُقد تحت الرعاية الروسية في سوتشي، على البحر الاسود، وحضره اكثر من 1500 عضو، فان الدول المتضررة من انهاء هذه الحرب تعمل لمدها..
ولقد تم تشكيل الوفود إلى هذا المؤتمر على عجل، ووصل بعضهم بلا جوازات سفر وانما بإذن مرور سوري ـ روسي، وقاطعت المعارضة المسلحة برغم وصول وفدها إلى سوتشي.. وهكذا فشل المؤتمر في تحقيق ما هو اكثر من اللقاء بين اخوة مبتاعدين.
وهكذا يمكن أن نفهم كيف تنشئ الولايات المتحدة قاعدة عسكرية في شرقي سوريا (الرقة ـ دير الزور) وان تتقدم القوات التركية داخل الارض السورية لتحتل بعض الشمال (ادلب ومنبج والآن عفرين)، في حين يقيم العسكر الروسي في قاعدتين على الشاطئ السوري وفق معاهدة تعاون لمدة اربعين عاماً.
هذا من دون أن ننسى أن “القوات الحليفة” التي ترعاها واشنطن قد تقدمت إلى ما خلف دير الزور للسيطرة على آبار النفط والغاز في سوريا.
“بلاد العرب اوطاني من الشام لبغدانِ”
لكن بلاد العرب تكاد تكون محتلة جميعاً، ويشارك في احتلالها الأمريكان إلى جانب الاسرائيليين، في حين تقوم مناطق نفوذ واضحة لكل من ايران (في المشرق) وبريطانيا وفرنسا (في الخليج).. ولأمريكا في كامل مساحة الوطن العربي.. بما في ذلك ليبيا التي تتقاسمها “الدول جميعاً”.. مع الفوضى القاتلة!
“أن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم”.
ينشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية
0 comments:
إرسال تعليق