في صباحٍ بدا عاديا، تحولت صورة أم تبكي عند أبواب مدرسة
إلى "تريند" يتصدر الشاشات الصغيرة. الأم جاءت لتسلم ابنها، لا إلى ساحة
حرب ولا إلى غربة بعيدة، بل إلى مدرسته، وهو طالب في الصف الأول الثانوي، عمره لم
يعد عمر الطفولة ولا البراءة المعلقة بأطراف المريلة، بل عمر الشباب الذي يستعد
فيه المرء للانطلاق نحو رجولته ومسئوليته. ومع ذلك، وقفت الأم تنتظر عودته حتى
نهاية اليوم، والعيون تلاحقها، والهواتف تلتقط المشهد، فتتحول لحظة شخصية إلى سلعة
رائجة في سوق الجنون الرقمي.
هنا لا نقف أمام دموع( أم) فحسب، بل أمام حالة اجتماعية
مقلقة، تخلط بين حب الأمومة المشروع وبين الإفراط العاطفي الذي يضعف شخصية الابن
ويحبسه في دائرة الطفولة الأبدية.
الأدهى من ذلك، أن الموقف لم يبق في حدود البيوت، بل خرج
إلى ساحات "السوشيال ميديا"، ليختزل كل شيء في لقطة، وتستثمر المشاعر في
سباق "اللايك" و"الشير". إنّه زمن صار فيه التصوير أهم من
التجربة نفسها، والبكاء أهم من التربية، واللحظة المصنوعة أهم من الموقف الطبيعي.
لنتذكر الماضي القريب: حين كنا نذهب إلى مدارسنا في
السبعينيات والثمانينيات، كانت الأم توقظنا فجرا، تحضر الفطار وتضع "الطعمية"
الساخنة في رغيف خبز، تقبّل جبيننا وتقول: "في رعاية الله". ثم تنشغل
بأعباء بيتها، مطمئنة إلى أننا في مكاننا الطبيعي، بين أقراننا ومعلمينا. لم تكن
هناك كاميرات ترصد الدموع، ولا سعي إلى شهرة على حساب هيبة التربية. كنا نعود لنجد
الأم في انتظارنا، لا على الرصيف أمام المدرسة، بل في البيت، وفي يدها حنان حقيقي
لا يحتاج إلى جمهور.
اليوم، صارت المبالغة في إظهار العاطفة ضربا من
الاستعراض، وصار الابن في موقع المفعول به: مرة يحرج أمام زملائه، ومرة يحاصر
بعاطفة تخنقه بدل أن تمنحه الثقة. إن التربية لا تكون بانتظار الابن على الرصيف
حتى يغلق باب فصله الدراسي، بل بتنشئته على الاعتماد على نفسه، ليخرج رجلا قادرا
على مواجهة الحياة.
#فى النهاية بقى أن اقول؛ لعل المقارنة بين جيل الأمس
وجيل اليوم تغني عن كثير من الكلام؛ جيل كانت أمهاته يودعن أبناءهن على باب البيت
بوصية مختصرة: "اعتمد على نفسك". لم تكن هناك كاميرات ولا "تريندات"،
لكن النتيجة كانت رجالا يحملون قلوب أمهاتهم في صدورهم لا في عدسات هواتفهم. أما
اليوم، فقد غلبت الصورة على الحقيقة، وأصبح الخوف يصور، والدمع يستثمر، والابن
يكاد يضيع بين حبٍ مفرط يضعفه وجنون تصوير يلهيه. إننا في حاجة إلى أن نعيد
للأمومة معناها النبيل، بعيدا عن وهم "اللايك" وسطوة "التريند".

0 comments:
إرسال تعليق