ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم فى المدينة كان أول تطبيق عملي للدولة الإسلامية في حسن التعايش مع الآخرين من غير المسلمين , ودلالة على أن الإسلام دين لا ينفي الآخر على الإطلاق وأنه يقر أن الاختلاف بين الناس في أشكالهم وألوانهم ومعتقداتهم هو سنة إلهية وحكمة ربانية .
قال تعالى
:" وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) سورة
هود .
وقال:" وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ
فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ
(99) سورة يونس .
وقال " وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ
شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا
أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي
الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) سورة الكهف .
وهناك أيضا السيدة هاجر ..عندما ذهب بها سيدنا
إبراهيم إلى وادِ غير ذى زرع وتركها ببضع حبات من البلح وزجاجة مياه ،وعندما عاتبت
زوجها قائلة :أتتركنا فى واد غير ذى زرع ؛فنظر إلى السماء ونظر إليها قائلا: الله معكما
وتركهما..وانفجر الماء من البئر ،وكانت أعوام قحط فمر رهط من احدى القبائل ووجدوا الطير
يحوم فى الوادى ..فقال كبيرهم معقول يوجد ماء هنا ،فأرسل دليله ورجع لهم قائلا: امرأة
ورضيع وبئر به ماء ؛فعدلوا خط سيرهم حتى أتوها واستأذنوها يقيموا معها فى هذا المكان
وهى"امرأة ورضيع"ولم تنهاهم ولكن وافقت قائلة : البئر لى ولرضيعى واستخدموه
كيفما شئتم..وعاشوا معها هى تعبد الرحمن وهم يعبدون آلهتهم حتى تزوج سيدنا إسماعيل
الذى كان رضيعا من تلك القبيلة..نعم أسلموا بعد ذلك..ولكنها دعوة للتعايش بين البشر"بلغتنا
اليوم"المواطنة".
اليس هذا ديننا.
هناك دعائم للعلاقات الإنسانية في الإسلام منها
:-
أولاً : التكريم:
التكريم
في أصل الخلق.
قال تعالى:-
(ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر و البحر
ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً) الإسراء الآية (70)
وقال تعالى:-
(لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) التين40.
التمييز
بالعنصر الروحي.
(فإذا
سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) سورة ص الآية(72) ، ويبنى على ذلك مبدأ الوحدة
الإنسانية كمبدأ طبيعي وكقانون ثابت لا يتبدل، وأنهم أمة واحدة تعيش في أسرة إنسانية
واحدة، وتتقوى هذه الوحدة كما أدرك الناس مقوماتها المتمثلة في: وحدة الربوبية لرب
واحد، ووحدة النسب من سلالة واحدة، ووحدة الناموس الذي يحكمهم، ثم وحدة المهام والهدف
المقدر لهم.
** تحريم الاعتداء على النفس الإنسانية بأي شكل
من مظاهر الإعتداء.
** استخلافه في الأرض وتسخير الكون له.
**إنزال الكتب وإرسال الرسل لتحرير الإنسان من
كافة أشكال العبودية.
ثانياً: الرحمة :
إن رسالة الإسلام رسالة رحمة في مصدرها ومنهاجها
ورسولها وحملتها.
قال تعالى
عن نفسه : (الرحمن الرحيم) الفاتحة الآية(3)،
(ورحمتي وسعت كل شيء) الأعراف : 156، وقال عن كتابه: ( وننزل من القرآن ما هو شفاء
ورحمة للمؤمنين) الإسراء: 82، وقال عن رسوله صلى الله عليه وسلم: ( وما أرسلناك إلا
رحمة للعالمين) الأنبياء(107)، وقال عن ورثة الرسول وحملة الدعوة 🙁 أشداء على الكفار رحماء بينهم) الفتح: 29 والرحمة لا تقتصر على علاقة الإنسان
بالإنسان بل تتعداه إلى عالم الحيوان والاشياء والنبات، قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم " من لا يرحم لا يرحم " رواه البخاري، وقال:( لا تنزع الرحمة إلا من
شقي) رواه الترمذي وأحمد، وقال:( في كل كبد ذات رطبة أجر) رواه البخاري.
ثالثاً : العدل:
قامت جميع الشرائع السماوية على العدل والقسط.
قال تعالى:( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا
معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) الحديد: 25، وبالعدل قامت السماوات والأرض،
وبه تستقيم أمور الحياة، وبالظلم تنهار الحضارات والأمم، قال تعالى:( إن الله يأمر
بالعدل والإحسان)النحل:90، وقال :(ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا، إعدلوا هو
أقرب للتقوى) المائدة:8 ، وقال تعالى في الحديث القدسي 🙁 يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلتها بينكم محرماً فلا تظالموا...)وكما
يقول العلامة ابن خلدون(الظلم مؤذن بخراب العمران)،فالعدل قيمة دينية تتفرع عن قيمة
الرحمة التي لا تفريق فيها باي سبب من الاسباب الدينية أو العرقية أو غيرها.
رابعاً: المساواة:
يولد الناس جميعاً متساوون في أصل الخلقة، وأنهم
أحرار، ويظلون كذلك في نظر الشرع، ولهم حق الفرص المتساوية في التعليم والتوظيف والعمل
والأجر والتعويض، ويجب أن يكون التمييز بينهم معتمداً على الذكاء والفطنة والمعرفة
والإنتاجية والتفوق، وعلى الفضيلة والاستقامة والصلاح.
وأن المساواة جاء تأكيدها في قول النبي صلى الله
عليه وسلم (يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، لا فضل لعربي على أعجمي،
ولا لعجمي على أعجمي،ولا لأحمر على أسود ولا
لأسود على أحمر إلا بالتقوى) رواه أحمد.
خامساً: المعاملة بالمثل :
من العدالة في التعامل الإنساني بين الآحاد والمجموعات
المعاملة بالمثل.
قال تعالى(فمن
اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ماعتدى عليكم)البقرة(194) وقال تعالى(وإن عاقبتم فعاقبوا
بمثل ما عوقبتم به )النحل (126), ويبنى على هذا المبدأ كثير من الأحكام الفقهية في
السياسة الشرعية .
سادساً:التمسك بالفضائل (الفضيلة):
وهي المعبر عنها في القرآن الكريم بالتقوى والإحسان
والبر، ومن مظاهرها:الرفق ولين الجانب والعفو والصفح والصبر، وكل ما يندرج من معاني
الأخلاق ومحاسنها، قال تعالى:(ولا تستوي الحسنة ولا السيئة إدفع بالتي هي أحسن، فلذا
الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)فصلت:34، ويندرج تحت ذلك مفهوم التسامح (لكم دينكم
ولي دين)الكافرون:6
سابعاً: الحرية:
هي من أكبر مظاهر الكرامة الإنسانية والطريق إلى
الإيمان الصحيح والمسئولية، حيث تركت الشريعة للإنسان حرية الاختيار والمشيئة دون جبر
أو إكراه على الدين الحق، قال تعالى 🙁 فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)الكهف:29 ،( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد
من الغي...)البقرة 256،(لست عليهم بمصيطر )الغاشية:22،(ولو شاء ربك لجعل الناس أمة
واحدة) ، والمقصود بالحرية:حرية الإعتقاد،حرية التفكير ،حرية الكلمة، وحرية التصرف
والتملك والتنقل والسكن والعمل...إلخ.
وما شرع الجهاد إلا لإزالة النظم والحكومات التي
تكره شعوبها على الإستعباد لها ومنعها من حرية الإختيار للدين الذي تطمئن إليه.
ثامناً: التعاون:
الإنسان كائن إجتماعي لا يعيش بمفرده دون أن يتعامل
معه أخيه الإنسان، ولذلك فإن التعاون أساس في حياة الناس، وجاءت الشرائع لتنظيم كيفية
التعامل، وتمنع من الإعتداء فيه، قال تعالى:( وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا
على الإثم والعدوان) المائدة:2، وجعل الإسلام التعارف المفضي إلى التعاون غاية للتنوع
القبلي والشعوبي: (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا)الحجرات :(13)،فالتعاون أساس التعايش
بين الناس على كل مستوياتهم.
تاسعاً: الوفاء بالعهد:
العهد هو الميثاق أو الإلتزام الجازم بين طرفين،
وقد جاءت الشريعة بالوفاء بالعهود والعقود.
قال تعالى:(
يا أيها الذين آمنوا أفوا بالعقود...)المائدة:(1)، وقال تعالى:( وأوفوا بالعهد إن العهد
كان مسؤولا) الإسراء:( 34)، (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها...)
النحل: (91).
وجعل الإسلام إخلاف العهود من علامات النفاق (وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر)، وإن هذه
القيمة تعزز الثقة بين الناس، وتقوى روابط التعاون بينهم، ولذلك جاءت الشريعة بالإعلان
عن نقض العهد إذا ما شعر المسلمون بالنقض من الطرف الآخر قال تعال:( وإما تخافن من
قوم خيانة فأنبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) الأنفال: (58).
فى النهاية بقى أن أقول:-
في إطار ما حفل به القرآن الكريم من معان سامية
ينبغى أن تسود البشر لإصلاح أمورهم في دنياهم
وأخراهم، بما في ذلك تأكيده على قيم العدل والمساواة والتعاون والسلام بين البشر- وهي
قيم ينبغي أن تكون لها السيادة في العلاقات السياسية الدولية- أتى بها الإسلام وسبق غيره بقرون عديدة.
0 comments:
إرسال تعليق