كشفت الأيام المجيدة التي عشناها على امتداد اسبوعين تقريباً، حقائق كانت مطموسة قصداً عن هذا الوطن الصغير..
أولى هذه الحقائق وأخطرها أن اللبنانيين شعب، حقاً، وشعب واحد، بالدليل الملموس ممثلاً بالحشود غير المسبوقة التي تدفقت إلى الساحات، ليس في المدن وحسب، بل في البلدات والقصبات والقرى الساقطة من ذاكرة الدولة، وكذلك من “ذاكرة” أشقائهم الذين لم يسبق أن عرفوهم أو اعترفوا بهم شركاء في وطن واحد.
حتى من قبل الحرب الأهلية كان اللبنانيون يعاملون بعضهم البعض، وتعاملهم دولتهم على أنهم شعوب وقبائل وأشتات وأقوام مختلفة إلى حد التضاد:
وبعضهم كانوا يلتحقون بطوائفهم ومذاهبهم ويرونها “أوطانهم”، خصوصاً وأن “التراث الاستعماري” التركي أساساً ثم الفرنسي الذي سرعان ما شاركه البريطاني الذي كان لمندوبها في لبنان، الجنرال سبيرز الذي يحمل واحد من الشوارع الرئيسية في بيروت اسمه، إلى جانب كثير من جنرالات الحرب العالمية الأولى التي كان بين ثمراتها إقامة “الكيان اللبناني” الذي صار في العام 1920 عبر اتفاق الانكليز والفرنسيين على تقاسم المشرق العربي.. فانتدبت فرنسا نفسها على لبنان مستندة على تراث الحساسيات الطائفية والمذهبية التي خلفها العثمانيون ثم غذاها الغرب، فصار لبنان مجموعة من الطوائف والمذاهب المتنابذة بما ضرب حقيقة انهم شعب واحد فرض عليهم التقسيم بتأثير النفوذ الأجنبي.
صارت “الإمارة” فجأة “المتصرفية” التي هي “من أملاك السلطنة” لكن الدول تعين “المتصرف” فيها.. وربما لهذا السبب كان معظم المتصرفين من “الأرمن”، أي ليس من “اللبنانيين ولا من “العرب” ولا حتى من الأتراك وان كانت بلادهم، آنذاك، ضمن السلطنة وليس خارجها.. هذا قبل أن يهجرهم “السـلطان” ويأتي بعضهم إلى لبنان حيث أُقطعوا عنجر وبرج حمود الخ..
في المتصرفية بدأ توزيع المناصب على الطوائف مع أرجحية واضحة للمسيحيين، ولا سيما للموارنة، مع تمثيل رمزي لسائر الطوائف، والمسلمين على وجه التحديد.. وفي ما تم الاعتراف بالسنة والدروز فقد كان التمثيل الشيعي شاحباً.
مع الانتداب الفرنسي أعطي المسيحيون الصدارة ولكن ليس عبر الموارنة بالذات.. بدليل أن معظم رؤساء المرحلة الانتقالية، قبل إعلان الاستقلال، كانوا من البروتستانت أو الروم الأرثوذكس.
فقط مع إعلان “استقلال لبنان” تم توزيع المناصب العليا طائفياً، ولكن “السلطة” كانت في يد رئيس الجمهورية الماروني يعاونه مجلس وزراء يرأسه موظف برتبة رئيس وزراء سني، ثم رئيس شيعي لمجلس النواب.. وهو أيضاً مجرد موظف.
لكن السلطة الفعلية كانت لرئيس الجمهورية ومن خلفه المفوض السامي الفرنسي، ومن ثم السفير أو القنصل أو القائم بالأعمال البريطاني سبيرز والذي كان تدخله حاسماً في انجاح بشارة الخوري كأول رئيس منتخب للجمهورية اللبنانية بدلاً من اميل اده الذي كانت تدعمه فرنسا.
ويشهد اعتقال الفرنسيين أبرز الشخصيات اللبنانية، وبينهم رئيس الجمهورية (بشارة الخوري) وأبرز القياديين آنذاك من مختلف الطوائف (رياض الصلح، عبد الحميد كرامي و…).
ولقد رد البريطانيون، عبر سبيرز إياه، بدفع من تبقى خارج المعتقل إلى الذهاب إلى بشامون وإقامة حكومة مؤقتاً “رمزياً” ومواصلة النضال من أجل الاستقلال تحت قيادة حبيب أبي شهلا ومعه مجموعة من المقاتلين جندهم صبري حماده.
.. وكان الاستقلال.. وقد تم رسم “العلم” في منزل أبو علي سلام (والد صائب سلام)، وبحضور صبري حمادة وسعيد المنلا، هنري فرعون، رشيد بيضون، محمد الفضل، مارون كنعان…
هذه لمحة سريعة عن وقوعات الماضي التي رافقت ولادة الكيان ورسم علمه، في مثل هذه الأيام من تشرين الثاني 1943.
هذا في الماضي، وقد بات من الذكريات.. الموجعة غالباً.
أما اليوم فإننا نشهد ولادة “الشعب” في لبنان
إننا نشهد ولادة الوطن بالمعنى الحقيقي..
لقد اثبت اللبنانيون، من ادنى أرضهم إلى أقصاها، وحدتهم الراسخة كشعب واحد موحد، متجاوزاً العصبيات الطائفية والمذهبية، والنعرات الجهوية، وتهاوت الحزبيات الفئوية.. فولد الشعب الواحد الموحد، الذي عجزت قياداته “الطائفية والمذهبية” عن تقسيمه مجدداً، بل تفتيته وضرب بعضه ببعض لتكون فتنة.
توحد “الشعب” في ميادين بيروت التي اسقطت تقسيمها إلى “شرقية” و”غربية”.. كما توحد بين صيدا وبعلبك وبين النبطية وكسروان وبين الشوف والكورة، وبين زغرتا وصور، وبين عكار والشريط الحدودي في أقصى الجنوب.
اكتشف الشعب حقيقته التي غيبها التعصب المصنوع والمحمي في الداخل بالزعامات التي ركبت للطوائف وبالخارج (الأميركي ـ وضمنه اسرائيل، وذكريات الغرب الفرنسي ـ البريطاني..) وهي المرحلة التي تجلت مشعة في المرحلة القصيرة من تاريخ نجاح الدعوة القومية بقيادة جمال عبد الناصر وأحزاب البعث وحركة القوميين العربية والقوميين السوريين، ومعها احزاب “الحركة الوطنية وقواها” وعلى رأسها الحزب الشيوعي.
أما الصفحات الجديدة في تاريخ لبنان فيكتبها الآن، “الشارع” بجماهيره التي تعارفت فتوحدت متعانقة وانشدت معاً: موطني..
والأمل أن تحمي الارادة الشعبية هذا الوطن الوليد وشعبه الذي “اكتشف” وحدته في الشارع وليس في أروقة العنصرية والمذهبية ونتاجها من “الزعامات” التي لا يمكن أن تبقى “قيادة” مقسمة وحدة اللبنانيين وقد صاروا أخيراً.. شعباً واحداً، ولسوف يبقون.
*نشرت بالتزامن مع السفير
0 comments:
إرسال تعليق