فى مقالنا الأخير المنشور هنا قبل أسبوع ، كان العنوان (لا تنتظروا نعى إيران) ، وكانت الحرب الأمريكية على إيران تصعد إلى ذروتها ، وكان مضى أكثر من أسبوع قصف "إسرائيلى" متصل بمئات القاذفات الأمريكية ، وكنا بانتظار دور القاذفات الأمريكية الشبحية الأضخم من طراز "بى 2 " ، وأطلق الرئيس الأمريكى "دونالد ترامب" الهجوم الأكثر ترويعا فى التاريخ ، واستخدم أغلب مخزون أمريكا من أم القنابل "جى . بى . يو 57 " ، سقطت 14 قنبلة منها على منشآت إيران النووية العلنية فى "نطنز" وأصفهان" و"فوردو" بالذات ، أضيف إليها 30 صاروخ كرروز من نوع "توماهوك" أطلقت من البحر ، وفى الهجوم الأقسى تاريخيا ، شاركت سبع قاذفات "بى 2" ، ومعها حشد هائل من 125 طائرة حماية وطائرات تزود بالوقود فى الجو ، وبعد انجلاء غبار الهول الجحيمى ، بدا أن شيئا جوهريا لم يتغير ، لا فى إيران ولا فى منشآتها النووية ، فقد كانت إيران على علم بالضربة الأمريكية غير المسبوقة ، تماما كما كانت واشنطن على علم مسبق بالضربة الإيرانية الرمزية على "العديد" أكبر قواعد أمريكا الجوية فى المنطقة ، بعدها كانت نهاية الحرب إلى حين ، وقد أعلنها "ترامب" على طريقة "حفظ الله إسرائيل وحفظ الله إيران" ، والتزم "بنيامين نتنياهو" رئيس الوزراء "الإسرائيلى" بقرار ترامب وقف النار بعد توجيه إيران لصاروخها الأخير إلى "بير سبع" ، ثم إعلانها هى الأخرى التوقف عن قصف الكيان المحتل.
وبعد
المشاهد الأخيرة المفرطة فى عبثيتها وهزليتها ، كان "ترامب" كما "نتنياهو"
يواصلان معزوفة النصر البائس ، كان "نتنياهو" يكرر مزاعمه عن النجاح المدوى
لعملية "الأسد الصاعد" ، لكنه اضطر بعدها بقليل لصناعة "فيديو"
حزين ، كان سببه عملية "كتائب القسام" جنوب "خان يونس" ، التى
أودت بحياة سبعة من ضباط وجنود جيش الاحتلال ، وجرحت أضعافهم فى كمين عبقرى مركب ،
كانت الصدمة كاشفة لخواء تباهى "نتنياهو" بالنصر على إيران وحلفائها ، وكما
كان بؤس "نتنياهو" ، كان معلمه "ترامب" يتلقى الصفعات بدوره ،
وكانت تقارير أجهزة المخابرات الأمريكية تتسرب وتفسد عليه متعة حركاته وأقواله
"البهلوانية " الاستعراضية ، وتؤكد خطأ مزاعمه بالنجاح الساحق للضربة الأمريكية
، وأنها قضت تماما على البرنامج النووى الإيرانى إلى الأبد ، بينما كانت شبكة
"سى.إن.إن" الأمريكية تنقل عن تقارير جهاز مخابرات الدفاع ، أن الضربة الأمريكية
لم تدمر المكونات الأساسية للبرنامج النووى الإيرانى ، وأنها قد تكون عطلته فقط لأسابيع
أو لشهور على الأكثر ، مما زاد من غضب ترامب ، الذى اندفع إلى وصلة شتائم وبذاءات صاخبة
ضد تقارير المخابرات والإعلام الأمريكى ، وراح ينشر ضجة إعلامية معاكسة بفيديو موسيقى
وأغنية على منصته الخاصة "تروث سوشيال" ، عنوانها "إقصف إيران"
، تقول كلماتها "إقصف إيران. سأخبر آية الله (يقصد خامنئى) بأننى سأضعه فى صندوق
. العم سام (رمز أمريكا) ساخن جدا . سيحول إيران إلى موقف سيارات" (!) ، وهكذا
بدا "ترامب" بطبع "البلياتشو" فى تكوينه ، وكأنه يعوض عن بؤس الوقائع
المرئية ، ويصطنع نصرا ساحقا فى خياله وفيديوهاته وأغانيه ، بينما الدنيا كلها ، وفى
أولها مخابرات بلاده وصور أقمارها الصناعية تثبت أن أضرارا حلت فعلا بمواقع البرنامج
النووى الإيرانى ، لكنها لم تدمر البرنامج الإيرانى قطعا ، فقد نجحت إيران فى نقل
400 كيلوجرام يورانيوم مخصب بنسبة 60% بشاحنات
قبل الضربة الأمريكية بثلاثة أيام ، وبالذات من منشأة "فوردو" المحصنة تحت
الجبل ، كما نقلت إيران آلاف أجهزة الطرد المركزى من الجيل السادس ، وكانت إيران قد
أبلغت الوكالة الدولية للطاقة الذرية قبل الحرب بعزمها إنشاء موقع تخصيب جديد لم تفصح
عن مكانه ، والمعنى ببساطة أن قصة البرنامج النووى الإيرانى لا تزال على الطاولة ،
وأن حرب الأيام الإثنى عشر على ضراوتها الفتاكة ، لم تحقق هدفها الأول المعلن فى واشنطن
وتل أبيب ، بينما يؤكد الجانب الإيرانى على لسان "محمد إسلامى" رئيس هيئة
الطاقة الذرية الإيرانية ، أن إعادة تأهيل المواقع النووية الإيرانية تجرى كما كان
مخططا لها مسبقا ، ولا تتحدث المصادر الإيرانية الرسمية طبعا عن مواقع البرنامج النووى
الموازى ، وإن كان الأرجح فيما نظن ، أن يستمر البرنامج الإيرانى فى مواقع سرية جديدة
، وربما تتعامل إيران مع ما جرى من ضرر لمنشآتها النووية على نحو آخر ، تستفيد فيه
من مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة الستين بالمئة ، وربما تزيد نسبة التخصيب إلى
93% اللازمة لصنع نحو عشر قنابل ذرية سريعا ، وتوقف العمل بالفتوى المحرمة لصناعة القنابل
الذرية ، وعلى قاعدة الضرورات التى تبيح المحظورات ، ولو فعلت وعلقت التزامها بضمان
التفتيش كما قرر البرلمان الإيرانى ، أو انسحبت من معاهدة حظر الانتشار النووى ، فقد
تتم المفارقة التاريخية فصولها ، ويكون لترامب فضل لم يقصده على إيران ، فقد كان انسحاب
"ترامب" من الاتفاق النووى عام 2018 مفيدا للبرنامج الإيرانى ، وسمح برد
إيرانى زاد نسبة التخصيب من 3.67% المتفق عليها إلى نسبة الستين بالمئة وأكثر ، ثم
قد تكون ضربة "ترامب" الاستعراضية للمنشآت النووية سببا دافعا لتسريع حيازة
إيران للقنابل الذرية ، بعد أن أدركت طهران أنه لا معنى للتلكؤ ولا للتفاوض ، وأنه
يمكنها السير على طريق الهند وباكستان وكوريا الشمالية و"إسرائيل" ذاتها
، وكلها أطراف نووية باتت غير ملتزمة أوغير موقعة على معاهدة الحظر النووى ، وقد لا
تحتاج إيران إلى أى عون نووى من طرف آخر ، فلديها معارفها وصناعاتها النووية المتقدمة
، وعندها جيش هائل بعشرات الآلاف من العلماء والمهندسين والفنيين النوويين ، ولا تؤثر
فيها خسارة عشرات من أكبر العلماء النوويين ، على نحو ما جرى فى الحرب الأخيرة وقبلها.
وقد
لا يجادل أحد فى خسارات وضربات فادحة تلقتها إيران ، فقد تلقت ضربة "قطع رأس"
فى الدقائق الأولى للحرب الأخيرة ، وفقدت العشرات من كبار القادة العسكريين والنوويين
، وتبين أن الاختراق الأمنى للداخل الإيرانى بلغ حدودا مفزعة ، وأن جيوش الجواسيس هربت
وصنعت عشرات آلاف المسيرات فى الداخل الإيرانى ، إضافة لاستخدام سلاح الجو "الإسرائيلى"
لقواعد أمريكية فى سوريا والعراق بالذات ، لكن القيادة الإيرانية على كثرة صور معارضاتها
العرقية والاجتماعية والثقافية ، أثبتت صلابة مذهلة ، وتمكنت من استعادة زمام المبادرة
فى الحرب بعد ساعات قليلة ، وبدأت ضرباتها الصاروخية على كيان الاحتلال فى مساء يوم
ضربة المفاجأة الأولى ، ونقلت حمم الدمار الواسع إلى قلب الكيان ، ورغم كل ما قيل وهو
صحيح عن ضعف الدفاعات الجوية الإيرانية ، وانفتاح السماء الإيرانية لطائرات القصف
"الإسرائيلى" الأمريكى ، وشن ضربات متوالية عنيفة على منشآت إيران النووية
والعسكرية والمدنية ، وارتقاء مئات الشهداء والمصابين الإيرانيين ، لكن الصمود الإيرانى
امتص كل الضربات المعادية ، وبما فيها الغارة الأمريكية الأخطر فى التاريخ ، ونجح فى
نقل حرائق النار إلى قلب الكيان طولا وعرضا ، من مستعمرة "المطلة" فى الشمال
إلى "بير سبع" و"إيلات" فى الجنوب ، ووضع ملايين الإسرائيليين
اليهود فى الملاجئ طوال أيام الحرب ، ودفع مئات الآلاف منهم إلى الهرب وشل كل جوانب
الحياة فى "إسرائيل" ، وتحويل مناطق كثيرة فى "تل أبيب" وما حولها
، وفى "حيفا" نزولا إلى "أسدود" و"النقب" والقواعد الجوية
ومصافى البترول ومعاهد البحث ومراكز المخابرات ، حول القصف الإيرانى الصاروخى أغلب
هذه المناطق والمبانى إلى مواقع منكوبة بالدمار ، وعلى نحو لم يحدث أبدا فى سيرة كيان
الاحتلال ، وقد يكون العدو الأمريكى "الإسرائيلى" نجح فى خداع ومفاجأة الضربة
الأولى فجر 13 يونيو 2025 ، لكن الرد الإيرانى جعل نجاح العدو مجرد سبق تكتيكى ، زادت
الاختراقات الأمنية الواسعة من خطورته ، بينما بدا النجاح الإيرانى استراتيجيا باهرا
، قهر كل أنظمة الدفاع الجوى "الإسرائيلى" الأمريكى ، وجعل من أنظمة
"ثاد" و"مقلاع داود" و"حيتس" و"القبة الحديدية"
أساطيرا مهشمة ومزحات ثقيلة ، وكان تطور الصواريخ الإيرانية مفاجأة الحرب الكبرى ،
وقد جرى استخدام مدروس متدرج لها ، وزادت نسبة اختراقها وإفشالها لما يوصف بأنه أفضل
نظام دفاع جوى فى العالم ، وجعلت الصواريخ الإيرانية الأحدث سماء "إسرائيل"
عارية ، وحققت صواريخ إيران الفرط صوتية الدقيقة أثرا مرعبا ، وصارت أسماء صواريخ إيران
"فتاح" و"سجيل" و"خيبرشكن" و"خرمشهر" وغيرها
، وبالذات الأجيال متعددة الرءوس التفجيرية منها ، صارت هذه الأسماء أبطال ونجوم الدرجة
الأولى فى الدراما الحربية المفتوحة ، وبدت كأنها أكثر خطرا من صواريخ أمريكا وأم قنابلها
"جى.بى.يو57" .
وبالجملة
، فلم يحقق العدوان الأمريكى "الإسرائيلى" أى نصر مؤكد ، لا فى تفكيك البرنامج
النووى ولا البرنامج الصاروخى ، ولا فى تهديد بقاء النظام الإيرانى ، ولم تهزم إيران
طبعا ، بل بدت فى الوضع الأقوى بعد الحرب داخليا وإقليميا .
KANDEL2002@HOTMAIL.COM

0 comments:
إرسال تعليق