رغم كل الملاحظات والمؤاخذات على بعض السلوك السياسى والعسكرى للراحل السيد حسن نصر الله وحزبه ، وبالذات فى خطايا التورط بحروب المستنقعات الطائفية فى العراق وسوريا ، إلا أن الحقيقة الأقوى تظل ساطعة ، وهى أن الرجل قبل وبعد غيره ، هو الأحق بأن تنسب إليه ولحزبه مدرسة المقاومة من نوع مختلف ، التى أضاءت ظلام المشهد العربى فى الأربعين سنة الأخيرة ، وتحدت ولا تزال قيود الإقامة الجبرية فى زمن الاستسلام الشامل ، وعلمت الأجيال بعد الأجيال ، أنه من الممكن استئناف حلم التحرير وسعيه ، وقد أحسن "حزب الله" فى الاحتفال بمرور أربعين يوما على استشهاد قائده التاريخى ، وأطلق رشقة صواريخ متطورة على قاعدة "تسرفين" العسكرية جنوب "تل أبيب" بالقرب من مطار "بن جوريون" ، ولا تزال فى الجعبة سهام ومفاجآت يطلقها ، وتثبت أن الحزب الذى تركه "نصر الله" هو أعظم ثمار حياته على الإطلاق .
وصحيح أن "نصر الله" لم يكن من القادة الأوائل لحزب الله ، ولم
يكن فى قيادة "شورى" الحزب زمن إطلاقه وإعلانه ، وكان فى القواعد المقاومة
من وقت الاجتياح "الإسرائيلى" أواسط عام 1982 حتى 1984 ، ثم تدرج فى
المسئوليات ، وإلى أن تقرر عزل الشيخ "صبحى الطفيلى" أول أمين عام لحزب
الله ، وتولى السيد "عباس الموسوى" موقع الأمانة العامة أواسط عام 1991
، واستشهاده بعدها بشهور فى أوائل 1992 ، ووجد السيد حسن نفسه مدعوا لموقع القيادة
الأولى ، رغم أنه كان الأصغر سنا بين رفاقه ، لكن المفارقة التى تكاثفت ملامحها من
بعد ، جعلت السيد حسن أطول قادة الحزب عمرا فى منصبه ، والأعظم تأثيرا فى صياغة
دور الحزب وتنظيمه وصورته ، وحول الحزب من جماعة مقاومة مميزة إلى مؤسسة هائلة
التكوين ، فيها عشرات الإدارات الداخلية ، وعديد المجالس القيادية ، بينها "المجلس
الجهادى" و"المجلس الأمنى" و"المجلس السياسى" و"المجلس
التنفيذى" ، ونجح "نصر الله" فى ترتيب نظام دقيق لهذه المجالس
وغيرها ، وكان يدرك أن قيادات التنظيم الأساسية معرضة للخطر فى أى وقت ، وأن "الموت
لنا عادة" على حد تعبير الملهم الأول الشهيد "الإمام الحسين" رضى
الله عنه ، وأن غاية الأمنيات الشخصية هى الاستشهاد على طريق الحق والقدس ، وكان
التحدى التنظيمى المطروح دائما ، هو سؤال "ما العمل ؟" ، حين يختفى قائد
باستشهاده ، وكان الجواب ببساطة هو استنساخ القادة ، وأن يكون لكل قائد تنظيمى ،
وبالذات فى الشق الجهادى والعسكرى ، أن يكون لكل قائد نائبان أول وثان على الأقل ،
وأن يجرى الإحلال تلقائيا ، حين تأتى ساعات الآجال ، وبدا الترتيب التنظيمى عبقريا
وفعالا ، حتى مع الضربات الثقيلة المتوالية الصادمة المذهلة لحزب الله ، ففى عشرة
أيام لاهثة دامية ، كانت ضربات العدو "الإسرائيلى" ـ الأمريكى تعصف
برءوس الحزب وصفوفه الأولى ، وبضربات "البيجر" و"الووكى توكى"
، التى راح ضحيتها نحو أربعة آلاف شهيد ومصاب من قيادات وكوادر الحزب فى 17و18
سبتمبر 2024 ، ثم توالت اغتيالات قادة قوات "الرضوان" والفرق الصاروخية
، وما كاد "نصر الله" ينعاهم
ويحتفل باستشهادهم فى آخر خطاباته ، حتى كانت مقاصل الموت تخنق عنقه شخصيا فى 27
سبتمبر ، ثم توالت اغتيالات أخرى ، عصفت بحياة مرشحين لخلافة القادة ، وبدا أن "حزب
الله" صار عاريا من كل قيادة ، وتعجلت "إسرائيل" وجماعاتها الناطقة
باللغة العربية للأسف ، وأعلنت أن "حزب الله" انتهى وانهار وذهبت قصته
مع الريح ، لكن "نصر الله" فاجأهم من قبره غير المعلوم العنوان ، ومقابل
العشرة أيام الكبيسة الداهسة ، كان حزب "نصر الله" يجدد جلده فى أقل من
عشرة أيام تلت ، وكان القادة الجدد يصعدون ، وكأن الأرض انشقت عنهم .
ومن الإنصاف أن نعترف ، أن تجربة "حزب
الله" ، ومدرسة "نصر الله" بالذات ، هى التى صاغت وصنعت مثال
المقاومة الجديد ، الذى انتقلت عدواه الكفاحية بسرعة من المقاومة اللبنانية إلى
المقاومة الفلسطينية الراهنة ، صحيح أنه كانت هناك موجة مقاومة أسبق ، قادتها حركة
"فتح" وأخواتها منذ أواسط ستينيات القرن العشرين ، وحققت إنجازات ملموسة
، لعل أهمها إعادة صياغة وبلورة الهوية والشخصية الوطنية الفلسطينية ، وعانت
الموجة الأولى من تراجعات المشهد العربى بعامة ، وبالذات بعد عقد ما تسمى "معاهدة
السلام" ، وخروج مصر بثقلها العربى الحاسم من جبهة المواجهة المسلحة للعدو "الإسرائيلى"
، وضرب مقاومة "فتح" وأخواتها
فى مقتل ، على نحو ما بدا فى حصار واحتلال بيروت ، وإخراج "منظمة التحرير
الفلسطينية" من لبنان إلى المنفى التونسى ، لكن لحظة الهوان ذاتها ، كانت تلد
نقيضها ، وفى لبنان ذاته ، الذى كان ويظل مرآة التحولات فى المنطقة ، وتقدم الدور
الإيرانى إلى الجبهة مع ثورة "الإمام الخمينى" ، وظهور ما قد تصح تسميته
بالإسلام "الفلسطينى" ، أى الإسلام الذى يجعل هدف تحرير فلسطين واجب
الوقت وعقيدته الأقدس ، وفى أجواء محنة بيروت ، التى اختصرت كآبة المشهد العربى
العام ، كان يولد أمل جديد ، وتصعد موجة مقاومة جديدة أكثر نقاوة وصلابة وتصميما ،
وكان الشهيد "نصر الله" فى قلبها منذ شبابه الباكر ، ثم أصبح عنوانها
الأشهر ، وقد بدأت المدرسة الجديدة مبارزاتها الإعجازية مع العدو الزاحف وقتها من
فلسطين إلى لبنان ، وبدت المقارعات الأولى كأنها دراما ملحمية بين قيمتين ، بين حس
الاستشهاد كأعلى قيمة إنسانية فى ثقافتنا الذاتية ، وبين أعلى قيمة تكنولوجية
يملكها العدو "الإسرائيلى" الأمريكى والغربى بعامة ، وبدت الجولات
الأولى ، وكأنها تخترق حواجز الصوت والعقل وتخطف الأبصار ، وتوالت العمليات
الاستشهادية الإعجازية ، وبدت كعواصف إلهية تقتلع زهو العدو بقدرته وجبروته
وطغيانه ، وفى نحو شهر وأقل ، كانت العمليات الاستشهادية بين أكتوبر ونوفمبر 1983
، تفجر مقر قيادة قوات مشاة البحرية الأمريكية "المارينز" فى بيروت ،
وتقتل 241 ضابطا وجنديا دفعة واحدة ، وتتبعها بتفجير مماثل فى مقر الكتيبة
الفرنسية ، وبتفجير مقر الحاكم "الإسرائيلى" المحتل فى مدينة "صور"
حاضرة الجنوب اللبنانى ، كانت العمليات الاستشهادية ، تبدو وكأنها خلق جديد ، وبعث
للأمة المنكوبة من رقاد وركام ، وفى تخطيط وتنفيذ هذه العمليات ، برز الرعيل الأول
من القادة العسكريين لحزب الله فيما بعد ، ولم تكن مصادفة ، أن "أمريكا"
و"إسرائيل" وهما شئ واحد ، تسابقتا إلى تخصيص مئات الملايين من
الدولارات كمكافأت ، لكل من يرشد أو يقدم معلومات عن "عماد مغنية" و"حسان
اللقيس" و"فؤاد شكر" و"إبراهيم عقيل" وغيرهم ، وكلهم جرى
اغتيالهم تباعا ، وكانوا أول من وضعهم "نصر الله" فى قيادة "المجلس
الجهادى" ، لكن مباراة الاستشهاد مقابل التكنولوجيا لم تتوقف أشواطها عند هذا
الحد ، فقد عجزت التكنولوجيا المعادية بطبيعتها الآلية أن تكسب ما يوازى الحس
الاستشهادى ، بينما استطاعت ثقافة الاستشهاد أن تكتسب فى الميدان حسا تكنولوجيا ،
لعبت تكنولوجيا الفقراء "الإيرانية" دورا ملموسا ، لكن الأهم ، كان
تدريب المقاتلين على تكنولوجيا المسيرات والصواريخ ، ثم استيعاب التقنيات وأساليب
العمل ، ثم إنشاء مصانع وورش الأنفاق ، ومراكمة ترسانات صناعة السلاح ذاتيا ،
وتكوين أجيال جديدة قادرة على التطوير والابتكار ، وهو ما بدت أماراته ظاهرة فى
حرب "غزة" وفى "حرب لبنان" الجارية ، فقد أبدت كوادر المقاومة
الجديدة كفاءة قتال باهرة ، مزجت الحس الاستشهادى بتكتيكات قتال مبدعة ، تعجز جيش
العدو الذى قيل زمانا أنه لا يقهر ، وتعلمت وتتعلم من حصاد التجارب والصدمات
القاسية ، وكونت أجهزة معلومات وتعقب تخصها ، بدت على قدر متزايد من الفاعلية
والتأثير ، والمقدرة على الوصول إلى عمق العدو ، كما جرى فى أكبر عملية "كوماندوز"
نفذتها "حماس" وأخواتها صباح 7 أكتوبر 2023 ، وكما جرى ويجرى فى قتال
رجال "حزب الله" بمعارك الجنوب اللبنانى اليوم ، وفى عمليات مسيرة "الهدهد"
التى لا يمكن اعتراضها ، وفى وصول مسيرة "صياد" إلى صالة عشاء الضباط فى
قاعدة "بنيامينا" العسكرية ، والنفاذ الدقيق إلى نافذة غرفة نوم المجرم "نتنياهو"
فى "قيساريا" ، وبما دفعه بعدها للتخفى باجتماعات مجلس وزرائه فى أماكن
سرية ، بعد أن شهد أكتوبر 2024 ، وبعد عام على عملية أكتوبر 2023 ، سقوط أكبر عدد
من القتلى العسكريين "الإسرائيليين" ، فالمقاومة تستوعب الدروس ، وتطور
عملها بالتوازى ، ومع كل دورة قتال ، تقفز أجيالها الجديدة بخطوات أكبر فى صناعة
التكنولوجيا الحربية المتحدية ، مع الاستناد دوما إلى ميزتها النسبية الحاسمة ،
واستدعاء قاعدة عملها الاستشهادى فى كل حين ، سواء فى ميادين القتال المتلاحم ، أو
فى العودة إلى العمليات الفدائية الاستشهادية وراء خطوط العدو ، وقد توالت مجددا
من "تل أبيب" إلى "يافا" و"الخضيرة" و"بئر سبع"
و"أشدود" وإلى زمن عاصف مقبل .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق