كلما دار الزمان ومرت الشهور والأعوام واستقبلنا مناسك الحج تثور في نفوسنا ذكريات شخصية نسائية عظيمة ، عجزت أرحام النساء ومنع عن أصلاب الرجال أن يولد في زماننا هذا بمثلها .
هاجر .. الزوجة الثانية .. المؤمنة الصابرة المحتسبة .. والتي أصبحت بتجاربها المثيرة القاسية مثل حي على حسن الظن بالله ..
تلك المرأة العظيمة التي أبتليت في بيتها ، وفي زوجها ، وفي ولدها الوحيد ، تلك السيدة المؤمنة والتي أصبحت بصبرها الجميل العظيم ، ووعيها الباذخ بطبيعة الرسالة والتكليف والعلاقات والارتباطات ، معلما" مضيئا" في تاريخ المرأة المسلمة .......
اختلفت الروايات في مكان ولادتها ، وحقيقة نسبها وأصلها ، فهى من قالت عنها الكتب أنها ابنة ملك مصر "سونسرت الثالث" قبل حرب الهكسوس التى تركتها أسيرة، ثم جارية فى منزل فرعون، وهى أيضاً من قيل عنها أنها "جارية" لا أصول ملكية لها، وهى من ذكرتها كتب التاريخ القديم بأنها من نسل "مصرايم" جد المصريين الأكبر من حام ابن نوح عليه السلام،
ورغم اختلاف الروايات إلا أن الكثير من العلماء يؤكدون أن السيدة هاجر كانت أميرة مصرية وتحديدا كانت شقيقة الملك المصري سنوسرت ، وعندما أتى الهكسوس ليحتلوا مصر استحوذوا على بلاط الملك ومن فيه فقتلوا الرجال واستبقوا النساء.
وجيء بالسيدة هاجر إلى بلاط ملك مصر، ولكنها كانت مستعصمة ، ذات شرف ومكانة ، حماها الله من صغرها ، فيقال إن الملك إن حاول النيل منها سرت فيه رجفة فابتعد عنها وعلم أن هناك قوة ما تحميها. والذي يرجح هذا القول هو تصرف هذا الملك الذي عرف بولعه الشديد بالنساء عندما حاول أن ينال من السيدة سارة زوج سيدنا إبراهيم شلت يده 3 مرات وكأن نفسه أدركت أن هناك صلة ما تربط بين السيدة التي أمامه وتلك التي يعرفها " المستعصمة الأبية هاجر" .فقرر هذا الملك إطلاق سراح السيدة سارة وليبعث معها هاجر تلك التي على نهجها - نهج العفة والإيمان والاستعصام.
اختلفت الروايات حول بداية القصة، ولكن لم تختلف على النهاية التى حولتها من سيدة لعبت دور الزوجة الثانية الشابة، إلى امرأة أرشدت من خلفها أمة كاملة، ووضعت بخطواتها قواعد التزم بها كل من أسلم وجهه بعد ذلك لوجه الله عز وجل ، وكرمها الله بما لم تكن تتوقعه في حاتها الأولي بمصر سواء كانت أسيرة أو ملكة ......
تزوجت السيدة هاجر " إبراهيم " عليه السلام بأمر من زوجته الأولى والتى قيل عنها أنها أجمل نساء الأرض، اختارتها راضية خاضعة لحبها فى زوجها، ورغبتها فى أن يكون لإبراهيم عليه السلام ما حلم به من ذرية صالحة، كتمت سارة بقلبها الغيرة، بينما بدأت "هاجر" فى استيعاب ما حولها من حياة أخري جديدة ، عاشت هاجر مع سيدتها سارة وزوجها إبراهيم في مصر أياماً قليلة , ثم ارتحلت معهما إلي فلسطين , حيث قرر إبراهيم عليه السلام العودة إليها مرة ثانية .
وفي فلسطين كانت هاجر نعم الجارية المخلصة لسيدتها سارة , وقد رأت في سيدها إبراهيم عليه السلام وسيدتها سارة ما لم تره في غيرهما من البشر , رأت أخلاقاً كريمة , ومعاملة طيبة , حيث كانت سارة رضي الله عنها تعاملها كصديقة لها , لا تثقل عليها في العمل , ولا تكلفها من الأعمال ما لاتطيق , فأحبتها هاجر حباً شديداً , وكانت لا تقصر في خدمتها وطاعتها , وقد دعاها إبراهيم عليه السلام إلي الإيمان بالله الواحد الأحد , فآمنت به , وعلمت أن إبراهيم عليه السلام رسول من عند الله , يدعو الناس إلي عبادة الله وفعل الخير , فكانت سعادة هاجر كبيرة بأن أنعم الله عليها بخدمته هو وزوجته الطيبة الصالحة السيدة سارة , فشكرت هاجر ربها وحمدته علي أن أنقذها من قصر الملك الجبار وأنعم عليها بخدمة نبيه ورسوله إبراهيم عليه السلام .
فترة ليست بالطويلة ثم أنجبت " هاجر " إسماعيل عليه السلام، زوجها شيخاً طاعناً فى السن، وزوجته الأولى لم تفلح فى كتمان غيرتها مدة أطول، ولم تتمكن فى كبح جماح ما تحمله من تقلبات أنثى لن تخبو بداخلها حتى وأن وصل سنها لثمانين عاماً، غارت سارة، فأطاحت بحياة هاجر الثانية، والتي وجدت نفسها فى رحلة طويلة شاقة من السفر يبحث بها نبى الله إبراهيم عن مكان أخر للعيش، متبعاً إرشادات وحى ربه ، وسارت "هاجر" المؤمنة بربها والمطيعة لزوجها دون أن تسأل زوجها على التفاصيل، سارت حاملة إسماعيل حتى وصلا إلى صحراء قاحلة جرداء ، لا زرع فيها ولا ماء ، تركها " ابراهيم " عليه السلام ، والعجيب في الأمر أن الزوجة المؤمنة المخلصة لم يذهب تفكيرها أن هذا الأمر من فعل ضرتها ، ولا أن زوجها يريد الخلاص منها ، ولم تشك في زوجها ولم تكفر العشير .. سبحان الله كل هذا ذهب هباء أمام قوة الإيمان الراسخة فى القلوب .. فكفران العشير عند المرأة المسلمة الموصولة بخالقها الداعية لربها صاحبة الرسالة لا وجود له ، وإن ألمَّ بها طيفه لحظة ضعف تذكرت آيات القرآن فإذا هي مبصرة ، فالكفران لا يخطر على بالها
( آالله أمرك بهذا ؟! ) .. هذا ما قالته السيدة هاجر الزوجة المؤمنة لزوجها إبراهيم عليه السلام .. سؤال نستشف منه متانة العقيدة التى تكنها المرأة العظيمة .. نرى فيه جميل رسوخ الإيمان فى قلبها .. تأبى أن تتعلق بغريق وهى نفسها غريقة ولا تتعلق إلا بربها .. نرى كيف كان ظنها بزوجها المؤمن الحبيب .. أنها فى وسط جبال لا زرع فيها ولا ماء .. صحراء قاحطة يتركها ورضيعها فيها ..
تركها فيها "إبراهيم" مؤكداً أن هذا أمر ربه فما كان منها سوى أن قالت "إذا لن يضيعنا الله"، أى صبر احتملته امرأة برضيعها، يتركها زوجها النبى فى صحراء لا يوجد بها سوى شمس تلفح جسديهما وتترك الأرض بعد مغيبها دافئة ليلاً؟، تركها إبراهيم فى خوف يعتصر قلبها، لم يملك من أمره سوى أن يلبى صاغراً، ولم تملك هى سوى الامتثال، ولكنه التفت لربه داعياً: ﴿رَبَّنَا إِنِّى أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾
ربما لم تذكر كتب التاريخ ما يكفى عن تاريخ قصة "هاجر" أم إسماعيل عليه السلام، ربما لم يتمكن أحد المؤرخين من وصف مشاعرها كامرأة وأم ترى طفلها على وشك الموت جوعاً، ربما لم يتخيل أحدهم كيف شعرت امرأة يتركها زوجها بناء على رغبة زوجته الأولى، فتتنازل وتقبل راضية بقضاء الله وقدره، فمهما سرد المؤرخون قصة السيدة الكريمة "هاجر" زوجة أبو المؤمنين، وام النبى "اسماعيل" لن يتمكن أحد من الشعور بما اعتصر قلبها من ألم لا تفهمه سوى امرأة تركها زوجها لتحمل المسئولية بمفردها، قوية، صابرة، محتسبة، ومن هذا الألم على وجه التحديد، من وجع المرأة والأم، وليس من تعب ومشقة الظروف، كانت معجزة "هاجر" وولدها عليه السلام،
وما هو إلا قليل حتى نفذ منها الماء وجفت عروق وليدها فتلوي من العطش والألم وتمرغ في الأرض ، وانطلاقاً من أنوثتها التى امتزجت بالمسئولية المفاجئة...... بدأت "هاجر" فى التفكير فى حلول بعد الأزمة، وانطلاقاً من أمومتها رسمت بخطواتها المتخبطة على رمال الصحراء الساخنة خطوط للمسلمين لمئات السنوات القادمة، تحركت أمومتها وهى التى لم يصمت انين قلبها بعد فانطلقت تهرول باحثة عن ماء ينقذ رضيها، أخذت قدميها تدفعها بين جبلين هم "الصفا والمروة" جرياً مرة بعد مرة، ترى السراب فتهرول نحوه ثم لا تجد شي ، فعلت ذلك سبع مرات ..
ترى كم من الوقت أخذت وهي تسعي ؟! ..
ترى كم عثرة عثرتها ؟! ..
وكم دمعة ذرفتها ؟! ..
وكم روعة ارتاعتها علي وليدها ؟! ..
وكم صرخة سمعتها منه ؟! ..
وكم نظرة سرقتها إليه وهو يتلوي يكاد يموت من البكاء عطشا وجوعا وألما وكم وكم وكم ؟!
ولكن كل ذلك هان , فقلبها مطمئن برب لن يضيعها أبداً ( لن يضيعنا الله أبدأ ) ، فجاء الفرج وفجر الله البئر تحت أقدام إسماعيل "عليه السلام"، استجاب الله لدعاء خليله "إبراهيم" عليه السلام، وتحول المكان الذى هرولت فيه "هاجر" أماً تدفعها غريزتها ولا شىء آخر إلى قبلة المسلمين فى الأرض على مر التاريخ، ومازالت أقدام "هاجر" التى هرولت بين الجبلين تدفع اقدام الأمة الإسلامية جميعاً للهرولة بحثاً عن حكمة الله فى اختيار "هاجر المصرية" لمحنة خرج منها ركن من أعظم أركان الإسلام فيما بعد، فسلام على "هاجر" من حركتها الأمومة فهرولت من خلفها أمة محمد ..
وأقامت هاجر بولدها إسماعيل عليهما السلام إلى جوار بئر زمزم، وظلت هكذا ما شاء الله لها أن تمكث، ربما شهورًا أو سنوات، حتى مرَّت بهم رفقةً من قبيلة جُرهُم أو أهل بيت من جُرهُم مقبلين من طريق كِداء.. فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرًا عائفًا فقالوا لأنفسهم: إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء فأرسلوا رجلًا أو رجلين فإذا هم بماء زمزم، فرجعوا فأخبروهم فأقبلوا وأُم إسماعيل عند الماء فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزِل عندك؟
وسؤالهم ينمُ عن أخلاقٍ عاليةٍ رفيعةٍ عند العرب، فهذه قافلة تمرُّ بامرأةٍ وحيدةٍ غريبة، يستطيعون بسهولةٍ أن يُزيلوها من على هذا الكنز، والماء قوام الحياة خاصةً في صحراء قاحلة.
ولهذا أتى بعد ذلك بقرونٍ طويلةٍ من نسلِ إسماعيل عليه السلام، أتى سيد البشر صلى الله عليه وسلم فقال: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ» فبعثه الله ليُتمِّم أخلاقًا كانت بعضها كريمة بالفعل عند العرب.
استأذنت القافلة هاجر فأذنت لهم، لكنها اشترطت عليهم وقالت: "نعم ولكن لا حق لكم في الماء!"، أي أنها أذنت لهم بحق الانتفاع فقط، وليس بملكية البئر. وإن المرء ليعجب من هذا الوعي الفطري، وحسن إدارتها لشئونها، فقد عقدت عقدًا مع تلك القافلة فيه حكمة التصرفٌ وحُسنُ إدارةٍ للموارد -بلغة عصرنا الحديث .
فرِحَت أُمُ إسماعيل وهي تُحِب الأُنس، فنزلوا فأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كانوا بها أهل أبيات وكونوا أول تجمُّع للبلدة المباركة، مكة المكرمة. وشبَّ إسماعيل عليه السلام وتعلَّم العربية منهم وأنفسَهم وأعجبهم حين شبّ..
وما أن استقر المقام بهاجر وابنها وصار لهم جيران يأنسون بهم ويتعاملون معهم، وما أن بدت الدنيا قد أينعت واستقرت، فإذا بلاءٌ عظيمٌ يهبِط عليهم، وإذا بإبراهيم عليه السلام يزورهم بعد سنوات ليرى ابنه الحبيب قد شبَّ وبلغ مبلغ السعي، ومع الأشواق الإنسانية الحارَّة ومع اللقاء الذي كان بعد فراق سنوات، وفي اللحظة التي ظنت هاجر أن سعادتها ستتم وتكتمِل بالتئام شملِ أسرتها؛ إذا بإبراهيم عليه السلام يُخبِرهم بسبب مجيئه وهو أمر الله تعالى له أن يذبح ابنه الوحيد.
ابنه الذي ضحَّت أُمّه في تربيته وتنشئته في غربةٍ ووحشة، يأتيها الخبر المباغِت بالأمر بذبحه وبيدِ زوجها عليهما السلام.
وربما كان هذا البلاء العظيم أشدّ وطأةً عليها من تركها أول مرةٍ وحيدةٍ غريبةٍ بوادٍ غير ذي زرع. ولكن هذه المرأة المباركة تُعلِّم البشرية مرةً أخرى معاني الإيمان والثقة بموعود الله تعالى، فتصبِر وتحتسِب وترى.. ويزداد يقينها على الحقيقة الخالدة: "إن الله لا يُضيع أهله".
هذه هي هاجر أم الذبيح وأم العرب العدنانيين، رحلت عنا بعدما تركت لنا مثالا رائعًا للزوجة المطيعة، والأم الحانية، والمؤمنة القوية ؛ فقد أخلصت النية للَّه تعالى، فرعاها في وحشتها، وأمَّنها في غيبة زوجها، ورزقها وطفلها من حيث لا تحتسب.، وقد جعل الله - سبحانه - ما فعلته السيدة هاجر - رضي الله عنها- من الصعود والسعي بين الصفا والمروة من أعمال الحج.
هاجر المثلٌ الأعلى لكل زوجة ضُيِّق على زوجها في الرزق فتصبِر معه سنوات محتسِبة راضية، ومثل أعلى لكل داع إلى الله أبعدته دعوته عن أهله ووطنه ومألوفاته، ومثل أعلى لكل مؤمن يثق أن صلاحه وفوزه في امتثال أمر الله وإن كانت عينه ترى غير ذلك وإن كان عقله يقصر عن إدراك حكمة الأمر ومغزاه، وهي أيضًا مثلٌ أعلى لكل مسلمٍ مكلَّفٍ بالأخذ بالأسباب المباحة المتاحة وهو متوكِّلٌ على الله واثق به، ويأخذ بالأسباب قدر طاقته ويستفرغ فيها وسعه وجهده.
إنها هاجر، أم إسماعيل، وزوجة إبراهيم خليل الله - رضي الله عنها -. عُرِفَتْ في التاريخ بأمِّ العَرَب العدنانيين......... وتوفيت ، ودفنها إسماعيل -عليه السلام- بجانب بيت الله الحرام.
0 comments:
إرسال تعليق