القاهرة، عاصمة جمهورية مصر العربية، على وشك انفجارٍ سكّانيّ. لعصور طويلة، ظلت القاهرة ذات الألف عام مركزاً للنفوذ السياسي والثقافي في العالم العربي والإسلامي. ولكن وفقاً لأرقام شركة يورومونيتور انترناشونال المختصّة بأبحاث الأسواق العالميّة، أصبحت القاهرة اليوم المدينة الأسرع نمواً في العالم. فمن المتوقّع أن يتضاعف عدد سّكّان العاصمة ليصل إلى 40 مليون نسمة بحلول عام 2050. هذا النمو السّريع واكبته خطط حكوميّة جذريّة نحو إعادة إعمارٍ طويل الأمد. وذلك أثّر على حياة الكثيرين في هذه العاصمة التاريخية.
يبحث تحقيقنا في حجم التمويل المرصود لعمليّة إعادة الإعمار، ومن سيستفيدون منه – كما نبحث في تأثير ذلك على سكان تلك المناطق.
مدينة مكتظّة بالسّكّان
في صباح أحد أيام شهر يوليو تموز 2016، تغيّرت حياة فارس جمعة إلى الأبد.
قال جمعة: "أتوا في التاسعة صباحاً وأمرونا بالخروج".
"كنّا محاصرين. لم يكن هناك أيّ مجالٍ للمقاومة."
حكاية فارس
- أمهل المسؤولون الرسميّون جمعة والمئات من جيرانه فترة قصيرةً لجمع ممتلكاتهم وإخلاء منازلهم حتى تتمكّن قوّات الأمن من البدء في هدم الحيّ بالجرّافات.
عاش جمعة وأجيال سابقة من عائلته في منطقة تل العقارب التابعة لحي السيدة زينب، الذي تتمحور الحياة فيه حول مقام السيدة زينب الذي يعد من أهم مراكز العبادة والأعمال الخيريّة في القاهرة. عمل جمعة في مسلخ الحيّ، حيث يقول عنه "إنه العمل الوحيد الذي أجيده".
كانت الحكومة قد أعلنت أن منزل فارس، إلى جانب العديد منازل كثيرة في نفس المنطقة، غير آمن ولا بد من إخلائه. دخل المسؤولون في حوار مع السكان لعدة أشهر، واتفقوا معهم على تعويضهم ماليا أو منحهم سكن بديل عند تنفيذهم أمر الإخلاء.
بدأت عمليّات الإخلاء القسري.
كان جمعة يمتلك منزله وأظهر الوثائق التي بحوزته لإثبات ذلك. خصصت له الحكومة وحدةً سكنيةً في "مساكن الأسر الأولى بالرعاية" والذي يعرف أيضا باسم "مساكن عثمان"، وهو مجمّع سكني كبير تابع لمحافظة 6 أكتوبر يقع في منطقة صحراوية على بعد مسافة 20 كيلومتراً غرب القاهرة. أخبر المسؤولون فارس أنه سكن مؤقت لحين الانتهاء من بناء مساكن جديدة في حي زينهم لأولئك الذين تم هدم منازلهم.
يتكوّن مجمّع مساكن عثمان الضخم الذي بني عام 2005 من صفوف متتالية لبنايات مؤلّفة من ستّة طوابق.
صممت المساحات الواقعة بين الأبنية لتكون ممرات يلتقي فيها السكان ومساحات تصلح كملاعب آمنة للأطفال. ولكنها على أرض الواقع تفيض بمياه الصرف الصحّي والنفايات بينما تجوب مجموعاتٌ من الكلاب الضالة الشوارع الواسعة الفارغة. الحي به مساحات رحبة كثيرة، استغلها البعض كحظائر صغيرة لتربية الدواجن. يأوي مجمع "مساكن الأسر الأولى بالرعاية" أعداداً من اللاّجئين السوريين والسودانيين إضافة إلى أسر في حاجة ماسة لمسكن، من بينهم أسر من تم إجلاؤهم من منازلهم.
ولكن المجمع يفتقر إلى معظم الخدمات الأساسيّة وفرص العمل هناك تكاد تكون معدومة، مما دفع جمعة إلى العودة إلى عمله السابق في المسلخ القريب من حي السّيّدة زينب.
تستغرق الرحلة من 'مساكن عثمان' إلى مقر عمله أربع ساعاتٍ ذهاباً وإيّاباً وتكلفه أكثر من نصف أجره اليومي. فلا يتبقى معه شيءٌ تقريباً لإطعام أسرته المؤلّفة من أربعة أفراد.
عرضنا حالة جمعة على الدكتور أحمد عادل درويش نائب وزير الإسكان ورئيس صندوق تطوير المناطق العشوائيّة، وهو المنصب الذي شغله من ديسمبر كانون الأول 2015 حتى شهر مارس آذار 2018.
قال الدكتور أحمد عادل درويش: "إنّه وضعٌ مؤقّت. المباني في السّيّدة زينب أصبحت شبه جاهزة بنسبة 70 في المئة. حتّى أنّها على نفس الطراز الإسلامي للمنطقة."
زوجة جمعة، سميحة إبراهيم، لم تتمكن من التأقلم على الحياة في مساكن عثمان فقررت العودة إلى حيها القديم، منتقلة بين مساكن مؤقتة يدبرها لها أقرباؤها. فقد أمضت حياتها محاطة بالأهل والجيران الذين يتشاركون أدق تفاصيل حياتها اليومية، في تناقض واضح مع أسلوب العيش في المجمعات السكنية الضخمة، حيث تقول عنها "إذا توفّيت في تلك الشقّة، لن يعلم بي أحد."
"نحن مغلوبون على أمرنا"
حصول جمعة على مسكن بديل في حيه القديم بعد إعادة تأهيله سيضع حدا لمعناته (انظر الجزء الثالث). ولكن هناك كثيرون آخرون تم إجلاؤهم وإعادة تسكينهم في أحياء نائية تفتقد للخدمات الأساسية وفرص التشغيل، إضافة إلى انعدام الروح المجتمعية التي تشكّلت عبر أجيال من التعايش ضمن نسيج متشابك.
ولادة المدينة العملاقة
توّسعت القاهرة الحديثة بشكلٍ كبيرٍ وامتدّت أبعد من الشريط الضيق المحاذي للنيل، فتوغلت اليوم داخل الصحراء المحيطة بها.
معظم ذلك التوسّع كان عشوائيّاً.
في السّنوات العشرين الماضية، تضخّم عدد سكّان القاهرة من أربعة ملايين نسمة إلى نحو عشرين مليون. ساهم ارتفاع معدّل الخصوبة في دفع النموّ الطبيعي من ناحية، ومن جهة أخرى أدّى تردّي الأوضاع لاقتصاديّة في الرّيف إلى اضطرار القرويّين للنزوح إلى المدينة سعياً وراء رزق أوفر.
توسع مدينة القاهرة
في ظل منظومة اجتماعية تعتمد على التكافل الأسري، يفضل الكثير من سكّان الأحياء الشعبية في القاهرة البقاء في نفس الأماكن الذين نشأوا فيها. لذلك تلجأ الكثير من الأسر إلى التوسع في البناء لاستيعاب الأجيال الجديدة وغالباً ما يتم ذلك دون الالتزام بضوابط التخطيط السليمة، مما يؤدي إلى خلق بناءٍ عشوائيٍّ، غالباً غير قانوني وفي كثير من الأحيان غير آمن. هذا بدوره يؤدي إلى زيادة الضغط على البنية الأساسية المحدودة أصلا وعلى المرافق المتاحة من شبكات كهرباء ومياه وصرف صحي.
تعرف هذه الأحياء في مصر باسم 'المناطق العشوائية' في إشارة إلى طبيعة نشأتها ونموها في معزل عن مؤسسات التخطيط الحكومي.
يقدّر عدد من يعيشون في العشوائيّات اليوم بنحو 14 مليون نسمة– أي ما يقرب من ثلثيّ عدد سكّان القاهرة الكبرى.
"العشوائيات" التسمية الشائعة في مصر للمناطق السكنية التي بنيت من دون تخطيط من قبل المتخصصين وبدون ترخيص رسمي في أغلب الأحيان.
تتنوع ما بين مساكن مكونة من طابق واحد مبنية بالطين أو الطوب اللبن، إلى بنايات خرسانية مكتملة المرافق قد ترتفع إلى عشر طوابق.
بدأت في السّتينيات. تشمل اليوم أغلب أحياء القاهرة
نسبة منها تصنّف بأنها 'غير آمنة' أي عرضة للانهيارات الأرضية، الفيضانات، حوادث القطارات، مخاطر الصعق الكهربائي، إلخ
في عام 2016، أطلق الرئيس عبد الفتاح السيسي خطّةً للقضاء على العشوائيّات بشكلٍ نهائيّ في مصر.
تستوجب الخطة عملياً إعادة رسم خارطة العاصمة المصرية. وهي تشمل نقل سكّان العشوائيّات إلى مناطق بديلة ثمّ السّماح بعودتهم بعد الانتهاء من إعادة إعمار أحيائهم الأصلية. خصصت الحكومة حوالي 17 مليار جنيه مصري (ما يقارب 961 مليون دولارٍ أمريكي) لإعادة إعمار العشوائيّات. تم تخصيص مليار جنيه مصري إضافي (282 مليون دولارٍ أمريكيّ) للقضاء على "المناطق غير الآمنة" في القاهرة خلال سنتين.
وتؤكّد الحكومة أنّه لن يكون هناك أيّ سكنٍ غير آمنٍ في القاهرة بحلول نهاية عام 2018.
وقال الدكتور أحمد عادل درويش، نائب وزير الإسكان ورئيس صندوق تطوير المناطق العشوائيّة السابق: "لكي تتمكّن الدّولة من إنماء هذه المناطق، يجب على النّاس مغادرتها مؤقّتاً." .
"من الطبيعي أن يرغب أي شخص في العيش حيث نشأ، أو أن يذهب إلى المدرسة بالقرب من أقاربه، أو أن يقيم بالقرب من مكان عمله وسط مجتمعه الخاص. نحن نحاول قدر المستطاع تمكين الناس من العيش في نفس المكان. لكن خلال تلك السنة سيتأثر بالطبع سكان تلك المناطق، فنحن نسعى لنقلهم من سكن غير لائق إلى مناطق أفضل ومختلفة تمامًا ، فالانتقال إلى مكان جديد أمر مكلف وصعب ومجهد ولكن لكي تتمكن الحكومة من تطوير مثل هذه المناطق، على الناس المغادرة مؤقتًا".
يواجه اليوم سكّان العشوائيّات ضغطاً من قبل الحكومة لإخلاء مساكنهم. بعضهم، كفارس جمعة، لم يكن لديهم الخيار.
يخشى الكثير من الأشخاص الذين تحدّثنا إليهم من أن يدمّر هذا التّطوير منظومتهم الحياتية التي تقوم على التعاون المشترك والاعتماد على النفس.
المشاركون في انتاج هذا العمل
تحقيق وكتابة: رضا الماوي
شارك في الكتابة: ماثيو تيللر
تحرير: نامق خوشناو - مي عبد الله - دانييل آدامسون
محرر (القاهرة): محمود أبو بكر
المحرر الميداني في القاهرة: محمد طارق
مادة علمية: أكرم يوسف
تصوير: نمك خوشناو - مصطفى حسن
مونتاج: راؤول ساكريستان
غرافيكس: آلبيرت فيلا آلسينا
البيانات التفاعلية: جوش رايمان (التطوير) - أليس غرينييه (تصميم) - ليوني روبرتسون ( تحريرالبينات)
تنسيق المقابلات: أحمد مصطفى
0 comments:
إرسال تعليق