• اخر الاخبار

    الخميس، 4 ديسمبر 2025

    قصة قصيرة: ضياع القرية بين الأنا والمصلحة..بقلم:حافظ الشاعر

     

     


    في أقصى الصعيد، كانت هناك قرية صغيرة اسمها النبعة، تعيش منذ زمن طويل على أمل مؤجل؛ أن يكون لها نائب في مجلس النواب بعد أن غاب مقعدها عن الدائرة أكثر من خمسة وعشرين عاما. الناس هناك بسطاء، يعرفون بعضهم بعضا، ويعتمدون على كلمة كبار القرية كأنها فصل من كتاب الحكمة.

    كان محمود، صحفي شاب، يعيش بينهم. أحبوه لصدقه وقربه منهم، ولم يتأخر يوما عن الدفاع عن حقوقهم فى برنامجه الإذاعي المحلي. وعندما أتى موسم الانتخابات، خصص حلقة كاملة ليدعو حكماء القرية إلى ترشيح أحد أبنائها لخوض المنافسة، مؤكدا أن الفرصة هذه المرة سانحة.

    اجتمع كبار القرية في دار العمدة، وبعد نقاش طويل، رفعت الوجوه الشائبة نظراتها وقالت بثقة:

    "أنت الأنسب يا محمود..تخرج باسمنا."

    وقع الخبر كالنور في قلبه، واشتعل الفرح في عيون الفقراء الذين يحبونه. جهز أوراقه، وبدأ يطرق أبواب القرى المجاورة، يعرف الناس بنفسه وبحلمه.

    لكن في يوم مفاجئ، أعلن الشيخ عارف، خطيب أحد المساجد، ترشحه هو الآخر. كان شابا ذا حضور وقراءة عالية، لكن قراره نزل كالصاعقة، فدخول مرشحين من قرية واحدة يعني تشتت الأصوات وضياع الفرصة.

    اجتمع مجلس الحكماء، وطلب محمود في برنامجه أن يحسموا القرار ويختاروا أحدا منهما. لكن كبار القرية خافوا الدخول في فتنة، وتذكروا أن محمود هو من دعاهم أولا لترشيح أحد، وهو من وافقوا عليه جميعا، فقالوا:

    "لن نظلم الرجل… القرية هتهاجمنا لو رجعنا في كلامنا."

    زاد الأمر سوءا حين دخل أبناء القرية إلى مواقع التواصل. بعضهم يسخر، وبعضهم يحرض، وآخرون ينشرون الشائعات. تحول الخلاف إلى مادة للضحك تارة، وللكراهية تارة أخرى. وغاب صوت العقل تماما… اختفى الكبار، ولم يعد أحد قادرا على اتخاذ قرار.

    الشيخ أصر على الدخول، يرى أنها فرصته وأن له حقا مثل غيره. ومحمود، الذي يفهم دهاليز السياسة، رأى النهاية واضحة:

    "لو نزلت أنا والشيخ… هتبقى استفتاء على الشهرة، مش انتخابات للي يخدم الدائرة."

    وقف أمام أهل قريته في برنامجه، وصوته يختلط بالحزن، وقال:

    "أعتذر لكم.. لن أدخل معركة خاسرة تُقسمنا. إن خسرنا صوتنا اليوم سنخسره لسنين."

    ومضت الأيام، وجاءت لحظة التصويت. أهالي النبعة لم يخرجوا إلا قليلا، وقد أرهقهم الخلاف وكسرتهم الفتنة. وعندما أعلنت النتائج.. كانت مخيبة كما توقع محمود..ضاع المقعد مرة أخرى، وضاعت معه فرصة القرية.

    في تلك الليلة، جلس مجلس الحكماء في صمت ثقيل، وقال أحدهم:

    "لما غاب رأي العقل.. اتقسمنا. ولما اتقسمنا.. ضاعت القرية."

    وهكذا بقيت النبعة درسا حيا بأن غياب القدوة، وهيمنة الأنا والمصلحة الشخصية، يمكن أن تهدم حلما ظل واقفا لربع قرن.

    انتهت

     

    • تعليقات الموقع
    • تعليقات الفيس بوك

    0 comments:

    إرسال تعليق

    Item Reviewed: قصة قصيرة: ضياع القرية بين الأنا والمصلحة..بقلم:حافظ الشاعر Rating: 5 Reviewed By: موقع الزمان المصرى
    Scroll to Top