مشاريع الزواج في أغلب بلادنا العربية والإسلامية مشاريع مكلفة، تحتاج إلى ميزانياتٍ كبيرةٍ، وتتطلب نفقاتٍ كثيرةً، عاجلةً وآجلةً، ومنظورةً وغير منظورة، ومباشرة وغير مباشرة، توجب على الراغبين في الزواج وذويهم، التفكير ملياً قبل الإقدام على هذه الخطوة المصيرية، التي هي فطرةٌ نبويةٌ، وطبيعة بشرية، وحاجة إنسانية، حث عليها الإسلام وسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن الإقدام عليها يتطلب القدرة المالية، والجاهزية النفسية والمكانية، والباءة الكاملة في النفقة والإعالة، وفتح البيت وبناء الأسرة، والقيام بكل الأعباء المنوطة بالرجل، الذي يتطلع إلى استكمال دينه وعفاف نفسه، وتكوين أسرةٍ مستقرةٍ ومواصلة حياته.
وقد كانت مشاريع الزواج قديماً سهلةً وميسورةً، قرارها حاضر وكلفتها جاهزة، وكانت مصدر فرحٍ وبداية سعادة، تقام فيها الأفراح والليالي الملاح، وتعم بسببها الفرحة البلدة والجوار، ويشارك فيها الأقارب والأغراب، ويشارك في كلفتها القادرون والراغبون، فلا تورث ديناً ولا تتسبب في ضائقة، إذ لم تكن تكلف النفس وتكسر الظهر، ولم تكن تتطلب شروطاً كثيرة ولا يلزمها استعدادات كثيرة.
ولكنها اليوم غدت صعبةً ومتعذرة، وإن كان البعض يصفها بأنها مستحيلة، خاصة في ظل الظروف الصعبة القاسية التي يعيشها الفلسطينيون عموماً، وفي قطاع غزة على وجه الخصوص، إذ غدا الزواج حلماً، وبات التجهيز له مستحيلاً، فلا قدرة مالية على امتلاك بيتٍ أو تجهيز غرفة، ولا إمكانية لتوفير مهرٍ وكسوة عروسٍ، في ظل البطالة وانعدام فرص العمل، وتدهور الحياة الاقتصادية بسبب الاحتلال الغاشم والحصار الظالم، حيث لا يقوَ الشاب على توفير ما يكفي للزواج، أو للمباشرة في حياةٍ مستقلةٍ وبناء أسرةٍ خاصةٍ، فيلجأ بعضهم إلى الهجرة والفرار، بحثاً عن فرصٍ جديدةٍ وآفاقٍ أخرى، أو يتجه نحو خياراتٍ فاسدة وبدائل غير مشروعة.
لا أبالغ في وصف الأوضاع العامة في قطاع غزة بأنها مأسوية ومريرة، وأن قدرة المواطنين فيه باتت معدومة، وتكاد تقترب من الصفر الحقيقي، إن لم تكن قد تجاوزته إلى ما دون الصفر بمراحل عديدة، فالفقر شديدٌ مدقعٌ، والحاجة ضرورةٌ ملحةٌ، والظروف صعبةٌ قاسية، والشباب عاطلٌ عن العمل، وأرباب العمل تجارتهم كاسدة ومعاملهم متوقفة، والأجور مقطوعةٌ أو محبوسة، والرواتب ممنوعة أو محسومةٌ، فلا يجد الرجل في جيبه فلساً يشتري به شيئاً أو يستخدمه أجرةً للمواصلات.
لا يملك المواطن في غزة ما يرضي به أهله أو يسر به أطفاله، فضلاً عن قوت يومه وصحة وتعليم أطفاله، فلا يجد غير النوم وسيلةً للهروب والفرار، وأحياناً يلجأ بعضهم إلى حبوب المخدرات علها تنسيهم همومهم وتغير مزاجهم، والأمر لا يقتصر على الذكور فقط، بل إن الأزمة النفسية تطال الإناث وتضر بهن أكثر.
أزمة الزواج في قطاع غزة خصوصاً وفي فلسطين عموماً أزمةٌ وطنية، ومشكلةٌ اجتماعيةٌ، تداعياتها خطيرة، ونتائجها سلبية، فهي لا تسبب ارتفاع نسبة العنوسة فقط لدى الإناث، وزيادة أعداد العازبين من الشبان، بل إنها تتسبب في حالات إحباطٍ واكتئابٍ، وعزلةٍ وهوسٍ، وقد تكون سبباً في وقوع البعض في براثن العدو الاستخبارية وشباكه الأمنية، إذ يستغل العدو هذه الأزمة الاجتماعية ويحاول التسلل من خلالها.
كما أن هذه الأزمة تؤدي إلى تراجع مستوى النمو في عدد السكان نتيجةً لتأخر سن الزواج، الذي من شأنه أن يؤثر على الخصوبة لدى الزوجين معاً، ومن المعلوم أن الإنسان الفلسطيني في فلسطين المحتلة هو عماد المشروع الوطني، وأساس الثبات وسبب البقاء في أرضنا المباركة، إذ بدون السكان المرابطين، والأهل الرابضين على تراب الوطن، والمتمسكين بحقهم في البقاء والوجود، كانت صبغة الأرض قد تغيرت، وهوية الوطن قد تبدلت، ومقدسات البلاد ومعالمها قد طمست أو زورت، ولولا وجودهم الكثيف والفاعل لكان العدو قد نجح في مخططاته، واحتل الأرض وسلب الهوية وصادر الحقوق والمقدسات.
فهل تنشأ في قطاع غزة أو لدى السلطة الفلسطينية هيئة وطنية مستقلة لتيسير شؤون الزواج، تتميز بالخبرة والنزاهة، والشفافية والموضوعية، والاستقلالية والحيادية، تعنى بالشبان راغبي الزواج، وتوفر لهم المساعدة الممكنة والاحتياجات المطلوبة، ويكون في حسابها ميزانية مناسبة، يستثمرها المكلفون بالمشروع، ويعملون على تنميتها وزيادتها، ورفدها بالمزيد والجديد، ومضاعفة رأس مالها عبر موازنةٍ سنويةٍ محددة من السلطة، ومن خلال مساعي الخيرين وعطاءات المتبرعين، وأوقاف الراغبين في المساعدة، وغيرها من المصادر الممكنة وهي كثيرةٌ ومتنوعة وسخية وكريمة.
علماً أن مثل هذه الصناديق متوفرة لدى الكثير من دول العالم، المعنية بشبابها، والحريصة على أبنائها، والخائفة على أجيالها، والمهتمة كثيراً بمواليدها وأطفالها، ونشأها الجديد وأجيالها الطالعة، ومن هذه الدول الكيان الصهيوني الذي يولي مشاريع زواج الشبان أهمية كبيرةً، فهل نجد من يرأف بحال الغزيين وينقذهم مما هم فيه من ضيقٍ وضنك، ولعلهم يستحقون أن تمد لهم يد، فهم مبدعون إذا عملوا، ونشطاء إذا اشتغلوا، ونوابغ إذا درسوا، وأوائل إذا اختبروا.
بيروت في 26/8/2019
0 comments:
إرسال تعليق