نخشى أن خطة تهجير الفلسطينيين من "غزة" دخلت حيز التنفيذ أو كادت ، ولم تعد القصة فى ثرثرات الرئيس الأمريكى"دونالد ترامب" وهمجياته ، ولا فى إصراره العبثى على وصف الخطة الامريكية "الإسرائيلية"صباح مساء بالجميلة والرائعة (!) ، وافتعاله العجيب لدوافع إنسانية مزعومة وراء جرائم السرقة والتهجيروالاقتلاع والتطهير العرقى ، ثم صارت العناوين أكثر وضوحا وقطعية ، ففى رأيه ، لن يعود فلسطينى واحد مطرود إلى ما يسميه "ريفيرا" الشرق الأوسط ، وستكون "غزة" ملكية خالصة لأمريكا ، تنتقل إليها من الجيش "الإسرائيلى" مباشرة ، وقد جرى تجهيز جيش الاحتلال بذخيرة دمار إضافية قيمتها ثمانية مليارات دولار ، فوق 22 مليار دولار سبقت ، بينها شحنة قنابل ضخمة ، تزن الواحدة منها ألفى رطل ، سبق أن استخدمها جيش الاحتلال فى حرب الإبادة عبر نحو 16 شهرا قبل وقف إطلاق النار الأخير ، وحجب الرئيس الأمريكى السابق " جو بايدن" بعضها للإيحاء ببراءة ذمة واشنطن من دمارها المفزع ، ثم جاء "ترامب" ليفتح المخازن على اتساعها من جديد ، وليعاود تهديده بإشعال الجحيم فى "غزة" ، بعد قرار "حماس" بوقف تسليم الأسرى "الإسرائيليين" ردا على إنتهاك "إسرائيل" لاتفاق المرحلة الأولى ، ومنعها دخول تسعة أعشار خيام الإيواء المتفق عليها ، وعدم السماح بدخول 68 ألفا من المنازل المتنقلة (الكرافانات) والمعدات الثقيلة المطلوبة لإزالة الركام من الشوارع المغلقة ، إضافة لحجب الأدوية وخفض عدد شاحنات الوقود المتفق عليها يوميا إلى أدنى حد .
وحتى وقت نشر هذه السطور ، قد
تكون جرت تسوية ما عبر الوسطاء المصريين والقطريين
والأمريكيين ، واستئناف السير فى خطوات تنفيذ بقية المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق
النار ، أو قد تتعثر المساعى ، خصوصا مع إنذار "ترامب" لحركة "حماس"
، ودعوته لها ـ بصيغة الأمر ـ إلى تسليم كل الأسرى والمحتجزين"الإسرائيليين"
دفعة واحدة ، وهو ما يعد خرقا فظا لاتفاق المراحل الثلاث ، الذى تفاخر "ترامب"
بدوره عبر مبعوثه "ستيف ويتكوف" فى التوصل إليه ، لكن المأزق يبقى على حاله
، حتى إن جرت تسوية موقوتة ، فرئيس وزراء العدو "بنيامين نتنياهو" ، عاد
من واشنطن بدفعة تشجيع هائلة لاستئناف الحرب ، ويبدو مصمما على إفشال مفاوضات الانتقال
المؤجلة إلى المرحلة الثانية من الاتفاق المتعثر أصلا حتى فى مرحلته الأولى ، ويريد
فتح الاتفاق لفرض شروط لم ترد فى نصوصه الموقع عليها ، من نوع إرغام "حماس"
على تفكيك جناحها العسكرى ، وترحيل قادة "حماس" العسكريين إلى خارج
"غزة" ، وإصداره الأوامر لجيش الاحتلال بالاستعداد لاقتحام "غزة"
مجددا ، إضافة لخرق وقف النار مرات من محور "فيلادلفيا" رغم الجلاء
"الإسرائيلى" عن "محور نتساريم" ، وكلها أجواء تنذر بالعودة إلى
حرب الإبادة الشاملة فى "غزة" ، وبالتوازى مع مثيلتها الجارية فى الضفة الغربية
، وتفريغ مخيماتها من السكان ، على طريقة ما جرى ويجرى فى مخيم "جنين" وفى
مخيمى "نورشمس" و"الفارعة" فى مدينتى "طولكرم" و"طوباس"
، وفى كل المناطق الملتهبة بدءا بمدن وقرى ومخيمات شمال الضفة ، وهو ما يعنى بوضوح
، أن حرب التهجير الكبرى صارت وشيكة ، إن لم تكن بدأت بالفعل ، بينما الأطراف العربية
التى رفضت التهجير ، وعدته عن حق اختراقا لمبادئ
القانون الدولى ، وشروعا فى التصفية النهائية للقضية الفلسطينية بتصفية وجود شعبها
على أرضه ، هذه الأطراف العربية على وجاهة رأيها وسلامة رفضها لخطة التهجير ، لا تزال
تعد الأيام الباقية على موعد عقد قمة "القاهرة" الطارئة نهاية فبراير الجارى
، وقد تجد نفسها أمام وضع جديد تماما ، قد
تكون الحرب فيه عادت إلى "غزة" ، ولا يعود من موضع لجدال حول إعادة إعمار
"غزة" ، ولا لخطط بديلة عن خطة "ترامب" اللعينة ، ولا لمحاولات
إقناع الرئيس الأمريكى الهائج لرفض خطته من مصر بالذات ، ولدى مصر خطة بديلة قابلة
للتطبيق دون خروج فلسطينى واحد ، لو استقامت النوايا العربية ، وصحت بعدها نوايا وسلوكيات
المشاركين فى مؤتمر وزراء خارجية دول منظمة "التعاون الإسلامى" ، المقرر
عقده بعد القمة العربية الطارئة ، فالخطة المصرية تتطلب تمويلا يقترب من الثلاثين مليار
دولار ، ولدى مصر شركات إنشاءات كبرى مشهود لها بسرعة الإنجاز ، والعمالة الفلسطينية
كثيفة ومتحمسة ، لكن قضية التمويل تحتاج تعهدات قابلة للتنفيذ من الأطراف القادرة عليها
، مع محاولات مصر لاستجلاب تمويل إضافى عبر "مؤتمر دولى لإعادة إعمار غزة"
، وكل هذه التصورات يلزمها ضمان استدامة الهدوء فى "غزة" ، وهو ما قد تعيقه
واشنطن وتل أبيب باستئناف حرب الإبادة عاجلا أو آجلا ، وبتهديدات "ترامب"
بالانتقام من السياسة المصرية بالذات ، والضغط لخنق مصر اقتصاديا ، ليس فقط بوقف المعونة
الأمريكية العسكرية ، وأرقامها ضيئلة هامشية التأثير ، والأهم من هذه المعونة التى
تستفيد بها واشنطن أكثر من القاهرة ، وتأخذ فى مقابلها ضمانات العبور الجوى لمقاتلاتها
عبر السماء المصرية وأولوية العبور فى قناة السويس ، فوق توريد أسلحة أمريكية بتكلفة
أعلى من سعر السوق ، وإعاقة تعامل مصر مع موارد أخرى لاقتناء أسلحة أكثر تقدما من نظيرتها
الأمريكية المسموح بتوريدها ، وقد قطعت مصر أشواطا هائلة فى الانفكاك من قيود المعونة
منذ قرارها بالعودة إلى مبدأ تنويع مصادر السلاح قبل أكثر من عقد مضى ، لكن نفوذ واشنطن
لدى مؤسسات التمويل الدولية كالبنك وصندوق النقد الدوليين ، قد يكون مشكلة فعلية لاقتصاد
مصر المثقل بالديون ، يستلزم التحسب لها توفير موارد نقدية تعويضية من الأطراف العربية
القادرة ماليا ، فلا نجاح ممكنا لعملية إفشال خطة التهجير بدون دور رئيسى حاسم لمصر
بالذات ، وموقف القيادة المصرية رغم أى خلاف داخلى على سياساتها ، يحظى بتوافق وطنى
واسع وتأييد شعبى جارف ، وإن تبقى السؤال الظاهر معلقا حول حدود وأسقف التصدى المصرى
لخطة التهجير الأمريكية "الإسرائيلية" ، خصوصا مع احتمالات العودة إلى جحيم
الإبادة فى "غزة" ، والمخاطر الحالة على أمن مصر القومى ، ولدى صانع القرار
المصرى بدائل عديدة دون التورط فى حرب مباشرة ، بينها مستويات من التصرف فى التزامات
ما يسمى معاهدة السلام ، أدناها تجميد العمل بالملاحق الأمنية للمعاهدة المذكورة ،
وأوسطها وقف اتفاقات "الكويز" و"الغاز" ، ناهيك عن خفض العلاقات
الدبلوماسية ، وليس من سفير "إسرائيلى" فى مصر منذ الشهور الأولى لحرب
"غزة" ، والسلام البارد تحول إلى توتر ساخن ، يلهب مشاعر الشعب المصرى ،
الأكثر عداء بإطلاق بين الشعوب العربية لكيان الاحتلال "الإسرائيلى" والسياسة
الأمريكية ، فوجود "إسرائيل" فى ذاته خطر على الوجود المصرى فى ذاته .
وقبل تصليب الموقف المصرى وأهميته
الجوهرية ، يبقى الضمان الأقوى لإفشال خطة التهجير فى الحالة الفلسطينية الداخلية ،
وما من شك فى رفض الأغلبية العظمى للشعب الفلسطينى لجرائم التهجير من أى نوع ، ولدى
الشعب الفلسطينى دروسه الثمينة المستقاة من محنته التى بدأت بالتهجير الأول ، وفى خبرة
المحنة التى قادته إلى اختيار المقاومة التى لا تهزم أبدا ، ربما نقطة الضعف الوحيدة
ظاهرة فى اضطراب تمثيله السياسى ، وفى الانقسام الأمامى الذى طال أمده ، وفشلت فى معالجته
مئات اجتماعات المصالحة بين "فتح" و"حماس" ، ومع المخاطر الراهنة
الكاسحة ، فلم يتبق من وقت للتلاسن ، ولا للتخلف عن نجدة الشعب الفلسطينى الأوثق ارتباطا
بأرضه فى الدنيا كلها ، وقد طرحت أفكار كثيرة ، لعل أهمها اقتراح مصرى بتشكيل لجنة
إسناد من التكنوقراط الفلسطينيين المستقلين لإدارة إعمار "غزة" ، لا تكون
من منتسبى "فتح" ولا من قيادات "حماس" ، وتكون ممثلة للسلطة الفلسطينية
الجامعة فى "غزة" ، وتدير الشئون السياسية والمدنية كلها ، ونظن أن الإسراع
فى التوافق واعتماد اللجنة الإدارية صار واجب الوقت الأعجل ، وقد تضغط "قمة القاهرة"
الطارئة فى هذا الاتجاه ، وما من بديل آخر لضمان تماسك عربى فلسطينى فى هذه اللحظة
الحرجة ، مع الحرص على عدم التصادم ولا التداخل مع حركات المقاومة المسلحة ، فالمقاومة
لم تعد مجرد اختيار بل حساب أقدار ، وما من كعكة سياسية حتى يجرى التنازع عليها ، وعبر
عهد "ترامب" الممتد لأربع سنوات مقبلة ، فلا فرصة لأى تفاوض عن دولة أو كيان
فلسطينى مستقل ، وما من عمل سياسى ممكن غير التحشيد الدولى وراء الحل العادل ، والعالم
كله تقريبا ـ عدا أمريكا و"إسرائيل" ـ يرفض خطة التهجير ، وبالوسع السعى
لاستصدار مزيد من قرارات سياسية وقضائية دولية ، تحاصر "ترامب" و"نتنياهو"
وسواهما من عتاة مجرمى الحرب ، وتمتص اندفاع الحالة "الترامبية" وهياجها
، خصوصا مع اختناقات علاقة "ترامب" حتى بأوثق حلفاء أمريكا فى الاتحاد الأوروبى
وفى الأمريكتين ، إضافة لمواقف الصين وروسيا وغيرهما من أطراف حلف الشرق والجنوب العالمى
، والتأييد المتزايد لقضية الحق الفلسطينى فى أوساط الرأى العام الغربى ذاته .
Kandel2002@hotmail.com

0 comments:
إرسال تعليق