ربما لا أحد عاقل يتوقع أن يغلق الرئيس الأمريكى "دونالد ترامب" ملف حرب أوكرانيا بصفة نهائية سريعا ، فالمقاول "ترامب" رجل صفقات وتكتيك عابر ، وقد أعلن أنه يريد الحصول على جائزة "نوبل" للسلام ، بينما سلوكه الأهوج لا يؤدى سوى إلى إشعال النزاعات والحروب التجارية والعسكرية ، وقد أكد رغبته فى عقد لقاء قمة فى العاصمة السعودية "الرياض" مع الرئيس الروسى "فلاديمير بوتين" ، وبدأ التمهيد بمكالمة هاتفية مفاجئة مطولة استغرقت 90 دقيقة مع "بوتين" ، وأرسل وفدا رفيع المستوى برئاسة وزير خارجيته "ماركو روبيو" للقاء النظراء الروس فى "الرياض" فى اجتماع قاربت مدته الخمس ساعات ، سرت بعده انطباعات متفائلة ، وبدت هذه التطورات كاختراق غير مسبوق فى علاقات واشنطن مع موسكو منذ بدأت حرب أوكرانيا قبل ثلاث سنوات ، وبدا أن "بوتين" يتجاوب مع مبادرات "ترامب" ، ربما بهدف التوصل إلى توافقات وتفاهمات ، قد لا يكون بينها الإغلاق النهائى لملف حرب أوكرانيا وتداعياتها .
ويبدو الفارق
هائلا فى اللعبة الجارية بين سلوك "ترامب" وسلوك "بوتين" ، والأخير
سياسى محنك ولاعب شطرنج غاية فى الذكاء ، وتجاوبه محسوب مع رغبات "ترامب"
، الذى لا يفتأ يعبر عن عظيم إعجابه بالرئيس الروسى منذ ولاية "ترامب" الأولى
، ولأسباب بعضها لا يزال غامضا حتى اللحظة ، وقد راهن "بوتين" على طبيعة
"ترامب" الشخصية ، وفاز فى الرهان حتى قبل عقد القمة المنتظرة ، فعقد القمة
فى ذاته اعتراف أمريكى بالدور الدولى لروسيا ، خصوصا أن ما أعلن عن موضوعاتها يتجاوز
الملف الأوكرانى ، ويدور حول قضايا عالمية بينها ملف حروب الشرق الأوسط ، وقد أشعل
سلوك "ترامب" تجاه روسيا غضب أوثق حلفاء أمريكا الأوروبيين عبر الأطلنطى
، وبدأ الشجار العلنى لقادة أوروبا مع واشنطن ، وانضم إليهم "كير ستارمر"
رئيس وزراء بريطانيا "العمالى" ، حتى مع خروج "لندن" من الاتحاد
الأوروبى قبل سنوات ، وتوالت اتهامات الأوروبيين لإدارة "ترامب" بالتخلى
عن أوكرانيا وعنهم ، وتركهم فى العراء بعيدا عن مباحثات واشنطن وموسكو ، وبما أوقظ
مخاوف أوروبية قديمة ، تحدث عنها الزعيم الفرنسى "شارل ديجول" قبل أكثر من
ستين سنة ، وحذر من يوم سوف يأتى ، تترك فيه أمريكا أوروبا وحيدة ، بل وتتهكم عليها
كما تهجم نائب الرئيس الأمريكى "جى.دى.فانس" على أوروبا فى اجتماع
"ميونيخ" الأخير ، مع الانتقاد الفظ لقادة الاتحاد الأوروبى ، واتهامهم بالخروج
عن ما أسماه "القيم الديمقراطية" والمسيحية ، ودعوتهم لتقبل أدوارا أكبر
لأحزاب اليمين "الشعبوية" فى المشهد السياسى ، وكأنه يريد جعل أوروبا
"ترامبية" هى الأخرى ، على نحو ما صارت إليه أحوال أمريكا ، وكأنه يريد نقل
السلطة إلى الأحزاب "الشعبوية" المفضلة أيضا للرئيس الروسى "بوتين"
، وفى ذلك وجه آخر لما يكسبه "بوتين" من "هوجة" ترامب ، فموسكو
الراهنة لديها مصلحة مباشرة فى تهميش أوروبا الذى بادر إليه "ترامب" ، ولدى
موسكو رغبات لتصفية الحساب مع قادة الاتحاد الأوروبى وبريطانيا ، وقد نجحت من قبل فى
كسب تأييد حكومتى "المجر" و"سلوفاكيا" ، ومع ضغوط "ترامب"
واندفاعاته الهوجاء ، قد يكسب "بوتين" حليفا جديدا ، هو الأقوى بامتياز بين
الحلفاء الغربيين الذين حاربوه فى أوكرانيا ، وأنفقوا مئات مليارات الدولارات و"اليوروهات"
على الدعم العسكرى والاقتصادى والمالى لحكومة الرئيس الأوكرانى "فلوديمير زيلينسكى"
، المهدد بالدهس تحت عجلات قطار "ترامب" ، والمعرض لابتزاز غير مسبوق من
واشنطن اليوم ، ولمطالبة بالتنازل عن نصف ثروات أوكرانيا من المعادن النفيسة ، المقدرة
مخزوناتها بنحو 15 تريليون دولار ، ونقلها مباشرة إلى حوزة "ترامب" ، وبدعوى
التعويض عن إنفاق أمريكا السخى على "زيلينسكى" وجيشه ، وهو ما يضع
"زيلينسكى" فى مأزق حياته ، ويدفع بالرغبات الروسية إلى الأمام ، فموسكو
تريد تغيير حكومة "زيلينسكى" الموصوفة عندها بالنازية ، وتريد نزع السلاح
الأوكرانى بالكامل تقريبا ، وتريد غلق الباب على احتمال انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال
الأطلنطى ، وقد أعلن "ترامب" نفسه رفضه انضمام أوكرانيا إلى "الناتو"
فى أى وقت ، فوق إعلانه وأركان إدارته عن تنازلات أوكرانية ضرورية فى أى اتفاق لإيقاف
الحرب ، بينها ـ غالبا ـ عدم العودة لخطوط 2014 ، والتجاوب جزئيا أو كليا مع رغبات
روسيا فى الاحتفاظ بشبه جزيرة "القرم" وضم المقاطعات الأوكرانية الأربع
(لوجانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون ) ، التى تسيطر روسيا على أغلبها عسكريا ، والأخطر
مما سبق ، أن إدارة "ترامب" تريد عقد اتفاق مع روسيا ، ودونما تشاور مع حلفاء
أمريكا الأوروبيين ولا مع أوكرانيا نفسها ، تماما كما "بوتين" ، الذى يريد
هو الآخر فرض حل متطابق مع خطوط السلاح فوق الأرض الأوكرانية ، وهى اليوم لمصلحة روسيا
على نحو شبه كامل ، وفى ذات الوقت ، يريد "بوتين" عقاب الاتحاد الأوروبى
وبريطانيا ، الذين ذهبوا للتحالف العسكرى مع واشنطن فى حرب أوكرانيا ، وإلى محاربة
موسكو مباشرة ، وتوقيع عقوبات على اقتصاد روسيا بلغت نحو عشرين ألف عقوبة ، وأوقفوا
استيراد الغاز الروسى ، وتآمروا مع واشنطن لتفجير خطى "نورد استريم" واحد
وإثنين ، والذهاب لشراء الغاز المسال من أمريكا ، وهو الأغلى سعرا من الغاز الروسى
بأربع مرات على الأقل ، وكأن أوروبا جدعت أنفها بيدها ، ثم أتتها الطامة الكبرى مع
هياج "ترامب" ، ورغبته هو الآخر فى عقاب إضافى لأوروبا ، وفرض مضاعفة الإنفاق
الأوروبى العسكرى إلى 5% من الناتج القومى لكل دولة أوروبية ، والتهديد بترك أوروبا
فى الخلاء العسكرى ، إن لم تدفع المطلوب فى نفقات حلف "الناتو" ، إضافة لسياسات
"ترامب" فى شن حرب تجارية مع أوروبا ، ومضاعفة الرسوم الجمركية على صادرات
أوروبا للولايات المتحدة الأمريكية ، وتصريحاته عن ضم أو شراء جزيرة "جرينلاند"
التابعة لدولة الدانمارك ، ودأبه المتصل على تحقير أوروبا ودورها عموما ، وهو ما يصب
فى مصلحة "بوتين" ، الذى لم يعد بحاجة لبذل جهد إضافى فى "دق الأسافين"
بين أمريكا وأوروبا (!) .
وربما لا
يكون "بوتين" فى عجلة من أمره ، وهو على ما يبدو ، يعرف تماما ما يريده ،
ولديه زمام المبادرة المطلقة على مسرح الحرب ، وعلى مسرح السياسة أيضا ، وقد نجح فى
كسب جولات الثلاث سنوات الفائتة ، فوق أن سعى "ترامب" لعقد قمم معه ، يعد
اعترافا مدويا بخسارة الغرب الأمريكى والأوروبى لحرب الميدان الأوكرانى ، وهو ما قد
يفتح الباب لإلغاء أو تخفيف العقوبات على اقتصاد روسيا ، التى لم تنجح سوى فى منح الاقتصاد
الروسى فرص نمو أعلى ، وفرص تفوق فى الإنتاج الصناعى العسكرى على مثيله الغربى عموما
، إضافة إلى نسج علاقات شراكة وتحالف وثيق مع الصين ، وبناء حلف الشرق الجديد بمواجهة
حلف الغرب القديم ، وقد يتصور "ترامب" أن بوسعه إقناع "بوتين"
بتقليص علاقاته مع بكين ، وهو وهم مطلق ، لن يسمح به "بوتين" ، الذى يدرج
حرب أوكرانيا فى سياق تصور أشمل عن الانتقال من عالم القطب الأمريكى الوحيد إلى عالم
متعدد الأقطاب ، وقد قطع خطوات واسعة بالتفاهم الأوثق مع الزعيم الصينى "شى جين
بينج" ، ولم يعد من مجال للتراجع عن ما تحقق فى تكامل السلاح وتكامل الاقتصاد
عبر "بريكس" و"معاهدة شنجهاى" ومضاعفة التبادل التجارى ، فوق كسب
حلفاء جدد حتى فى منطقة الشرق الأوسط ، الخاضعة من عقود للهيمنة الأمريكية شبه المطلقة
، وكسب فرص لتعويض خسارة موسكو فى سوريا بعد خلع حكم "بشار الأسد" ، مع الاتجاه
الأمريكى لاستفزاز حكومات المنطقة ، وتهييج مشاعر الأطراف العربية بالذات ، على نحو
ما فعله "ترامب" فى خطة تهجير الفلسطينيين ، وبالجملة ، فقد كسب "بوتين"
من هياج "ترامب" ونزعته التليفزيونية حتى قبل أن تعقد قمة القطبين ، وقد
كان رأى "بوتين" وهدفه المعلن من سنوات ، أن يجرى التفاوض حول أوكرانيا بين
موسكو وواشنطن حصرا ، وأن يجرى بحث مشاغل روسيا الأمنية فى أوروبا ، وإعادة رقعة انتشار
قواعد وصواريخ حلف "الناتو" فى أوروبا إلى حدود 1997 ، وهو ما يتحقق اليوم
بإقرار التفاوض من حيث المبدأ ، مع "خض ورج" التحالف الكلاسيكى بين أوروبا
وأمريكا ، والتعامل مع كل طرف على حدة ، وهاهى خطته تنجح أو أنها توشك على نجاح ، فذهاب
واشنطن إلى تفاهم مع موسكو ، قد يدفع الأوروبيين الناقمين إلى محاولات تقارب مع موسكو
نكاية فى سلوك "ترامب" ، والكسب فى أوروبا هو الأهم عند موسكو ، والقطاع
الأوروبى من مساحة روسيا الأوسع عالميا ، يشكل نحو أربعين بالمئة من مساحة أوروبا كلها
، فوق حساب الخسائر الاقتصادية ، التى منيت بها أوروبا بسبب القطيعة مع روسيا ، وهكذا
قد يضرب "بوتين" عصفورين بحجر واحد ، ويكسب اللعبة التى بدأها "ترامب"
ربما بغير حساب دقيق لعواقبها .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق