فى الأيام والأسابيع الأخيرة ، جرت تحركات أوروبية أعلى صوتا ضد حرب الإبادة والقتل الوحشى والتجويع والتعطيش بالجملة فى "غزة" ، بدت التحركات الجديدة مفاجئة للبعض ، وقارن الكثيرون عن حق بين اليقظة الاوروبية النسبية وبين الموات العربى والإسلامى ، رغم أن مآسى "غزة" ومحنة فلسطين تجرى فى قلب العالم العربى والإسلامى ، ويفترض أن تكون المشاعر والضمائر أكثر حرارة وفيضانا عند شعوب الدول العربية والإسلامية ، وأن تكون الحكومات العربية والإسلامية أكثر مبادرة ونشاطا ، لكن ما حدث ويحدث هو العكس بالضبط ، وباستثناءات محدودة أهمها فى اليمن وفى "صنعاء" بالذات ، بينما بدا العالم العربى ـ وقبله العالم الإسلامى ـ غارقا فى الصمت والتبلد وخذلان "غزة" واللامبالاة بالدم المسفوح ، بل ذهبت بعض حكومات العالم العربى إلى تقديم الهدايا للقتلة ، ورمى تريليونات الدولارات تحت أقدام الرئيس الأمريكى "دونالد ترامب" ، ربما ليدفع من عوائدها مالا وسلاحا ومشاركة بحروب كيان الاحتلال "الإسرائيلى" ، وتشجيعه على الإيغال فى تدمير وإبادة وتهجير الفلسطينيين ، والاستيلاء على أراضى دول عربية مجاورة ، وتقويض أى تحرك عربى مشترك ولو كان صوريا ، على طريقة استجابة أغلب الحكام العرب لأوامر "ترامب" ، وامتناعهم عن المشاركة اللائقة فى قمة "بغداد" العربية الأخيرة ، ثم اكتفاء القلة التى حضرت بمناشدة "ترامب" القاتل نفسه أن يفعل شيئا لوقف حرب الإبادة ، ومن دون أن تسأل هذه الحكومات نفسها عما تفعله هى ، ولا أن تبرئ ذمتها من أوزار التواطؤ العاجز ، ولا أن تفكر حتى فى قطع علاقاتها الاقتصادية والدبلوماسية مع حكومة كيان الاحتلال ، حتى وإن أنهى بعضها ـ كما مصر ـ علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان على نحو مكتوم ، ولكن مع إبقاء الوجوه الأخرى الأخطر للعلاقات رغم التوتر المتزايد على الجبهة المصرية ، ورغم أن الرئيس المصرى قالها بوضوح فى قمة بغداد ، وأعلن أن تطبيع كل الدول العربية مع "إسرائيل" لا يعنى كسبا لسلام ولا لأمن ، وأن استعادة بعض الحق الفلسطينى وقيام الدولة الفلسطينية ، هو وحده الذى يصنع السلام ويكفل أمن المنطقة .
وقد لا يكون
موقف الحكومات العربية فى حاجة إلى شروح ، فأغلب هذه الحكومات ـ إن لم تكن كلها ـ
مقطوعة الصلة بحس شعوبها ، ومفروضة بالقوة والقسر فى قصور الحكم ، وتحظر التظاهر
الشعبى لنصرة الشعب الفلسطينى ، وتخشى أن يتحول التظاهر تضامنا مع الفلسطينيين إلى
تحرك ضد نظم التخاذل ذاتها ، وبعض هذه الحكومات تعلن جهارا نهارا كفرانها بالقضية
وبالحق الفلسطينى ، ولا تخفى تحالفها الفعلى مع كيان الاحتلال ، وسعيها لدعمه
وتمديد سطوته فى المنطقة ، والعداء المطلق لأى حركة مقاومة فلسطينية أو غير
فلسطينية ، وعملها الدائب لنزع سلاح المقاومين ، بل والتبرؤ من أى صفة عربية كانت
، حتى ولو كانت قبرا من رخام على طريقة الجامعة العربية وقممها الموءودة ، والتحول
إلى روابط بديلة عسكرية وسياسية ، تكون "إسرائيل" مركز قيادتها ومحركها
بالوكالة عن الحماية والرعاية الأمريكية ، وبدعاوى تمويه ضالة ، من نوع أولوية
مواجهة الخطر الإيرانى ، وإحلال طهران فى مركز العداوة بدلا من "تل أبيب" .
من هنا ، تبدو
المفارقة ظاهرة ومفهومة بين الموات المفجع للضمير العربى الإسلامى وبين الصحوة
النسبية للضمائر الأوروبية ، ففى أوروبا لا توجد حكومات "عربية" تقمع
وتقهر أهلها ، وتحظر التظاهر الشعبى ، وفى عواصم أوروبا الكبرى والصغرى ، كانت
مظاهرات التضامن مع الفلسطينيين تتدفق إلى الشوارع والميادين ، وعلى نحو بدا
تدريجيا وتصاعديا عبر عشرين شهرا من حرب الإبادة والتقتيل الوحشى فى "غزة"
والضفة الغربية ولبنان ، وإلى أن بدت حركة التظاهر كانشقاق مؤثر فى المشهد
الأوروبى ، بين فئات شعبية تحتكم إلى الضمير الإنسانى ، وبين حكومات من اليمين ومن
اليسار ، ورثت وواصلت موقفا أوروبيا داعما مواليا بالخلقة لكيان الاحتلال "الإسرائيلى"
، ومحتضنا للحركة الصهيونية ، التى دمجت نفسها منذ البواكير مع الثقافة الغربية
الأوروبية ، ومع حكومات أوروبا الإمبريالية الاستعمارية ، ومع الشعور الأوروبى
باقتراف الذنب والتقصير فى حماية اليهود من الافتراس النازى فى الحرب "العالمية"
الثانية ، وهكذا تحول اليهود من ضحايا وعبيد لنسق الغرب الأوروبى فى العصور الوسطى
، ثم لنسق العنصرية الأوروبية فى طورها الألمانى النازى ، وإلى أن بدت الحركة
الصهيونية ـ فى التعريف الأوروبى ـ كحركة تحرير لليهود من استعباد أوروبى متطاول
المدى ، بينما لم تكن لليهود من مظلمة تذكر فى العالم العربى الإسلامى ، وأرادت
أوروبا العنصرية الاستعمارية حل مشكلة يهودها على حساب العرب والمسلمين بالذات ،
وتوالى اندفاع الخطى الأوروبية على ما يعرف الكافة ، بدءا من "وعد بلفور"
البريطانى ، وإلى تسهيل بريطانيا ـ التى كانت عظمى ـ لإقامة كيان الاحتلال فى
فلسطين ، ثم احتضان بريطانيا وفرنسا الاستعماريتين للكيان ، وإلى أن حلت أمريكا فى
قيادة الدور نفسه ، بعد قطع ذيل الأسد البريطانى فى حرب السويس 1956 ، ورغم
التحولات التى جرت فى الأدوار العالمية ، إلا أن الرأى العام الأوروبى فى أغلبه ،
ظل على عادات التأييد والدعم المطلق لكيان الاحتلال "الإسرائيلى " ،
الذى جرى تصويره كقطعة من الحضارة الغربية ، وكمنارة للديمقراطية الغربية فى منطقة
متخلفة مظلمة ، ومع صعود أمارات التحدى العربى لكيان الاحتلال وتوالى ظهور حركات
المقاومة الفلسطينية واللبنانية ، بدت علامات تشقق هامشية فى مشهد الرأى العام
الغربى والأوروبى بالذات ، بلغت ذروتها فى شهور حرب الإبادة الجارية ، وإن بدت
حركة التظاهر فى الشارع بعيدة عن التأثير فى مواقف الحكومات ، ولعب التطور الهائل
فى وسائط الاتصال والشبكات الاجتماعية دورا ملحوظا ، فقد كانت حرب "غزة"
أول حرب إبادة مرئية للكل فى مطلق التاريخ الإنسانى ، وتكفل النقل المرئى اللحظى
بالصوت والصورة فى يقظة ضمائر أوروبية غير مسبوقة ، ولوقت طويل مضى ثقيلا محبطا ،
بدا أن مظاهرات الشوارع الأوروبية فى جانب من المشهد ، بينما ظلت مواقف الحكومات
فى أغلبها على الجانب الموالى بإطلاق لسردية كيان الاحتلال "الإسرائيلى"
، وإلى أن بدأت المواقف الحكومية فى التشقق تأثرا بما يجرى فى الشوارع والجامعات ،
وتتابعت موجات التغير النسبى فى مواقف الحكومات المنتخبة ديمقراطيا ، وشهدنا موجة
أولى فى تغير مواقف حكومات "أيرلندا" و"أسبانيا" و"النرويج"
و"سلوفينيا" و"بلجيكا" وغيرها ، التى توالت اعترافاتها بحق
الفلسطينيين فى إقامة دولتهم على الأراضى المحتلة فى حرب 1967 ، ثم مرت مرحلة
طويلة من تباطؤ الإيقاع ، وإلى أن وصلنا إلى المرحلة الأخيرة مع حملة خنق وتجويع "غزة"
، وإعلان مواقف جديدة من دول أوروبية ، عرفت تاريخيا بالتصاقها مع حركة كيان
الاحتلال تسليحا وتمويلا ، ورأينا البيان المشترك لبريطانيا وفرنسا وكندا عبر
المحيط الأطلنطى ، الذى ندد بما أسماه "السلوك المشين" لحكومة الاحتلال
، ولوح بتوقيع عقوبات على حكومة "بنيامين نتنياهو" ، وطالب بفتح معابر
المساعدات الإنسانية فورا ، وإيقاف حرب الإبادة فى "غزة" وتجميد
الاستيطان فى الضفة ، ثم تطور الموقف المعلن إلى حدود أبعد ، بإبداء الاستعداد
للاعتراف بدولة فلسطينية ، وكان لافتا ، أن حكومة بريطانيا التى لعبت الدور الأكبر
تاريخيا فى إنشاء كيان الاحتلال ، راحت تستدعى سفيرة "إسرائيل" فى لندن
لتوبيخها ، وتعلن وقف مفاوضات تطوير اتفاقية التجارة الحرة مع "إسرائيل"
، ولم يكن ذلك ليحدث على محدوديته ورمزيته ، إذا لم تكن حركة التظاهر المؤيد للحق
الفلسطينى قد تطورت ، وبلغ عدد المشاركين بإحداها نحو نصف مليون متظاهر ، وهو ما
جرى مثله فى عواصم ومدن أوروبية أخرى ، فقد تظاهر مئة ألف فى "لاهاى" الهولندية
حيث محاكم "الجنايات" و"العدل" الدولية ، ودعت الحكومة
الهولندية إلى مراجعة اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبى و"إسرائيل" ،
وهو ما يلقى إلى الآن تأييدا ظاهرا من أغلب أعضاء الاتحاد الأوروبى (17 دولة مؤيدة)
، وربما يواجه معارضة وتعطيلا من حكومة ألمانيا اليمينية بالذات ، وعلى عكس حكومة "أسبانيا"
، التى ذهبت إلى موقف أكثر تقدما ، وأقر البرلمان الأسبانى بالأغلبية مبدأ مراجعة
ووقف صادرات السلاح وغيرها إلى كيان الاحتلال ، ثم كان الغضب الأوروبى العام بعد
إطلاق جيش الاحتلال النار على موكب الدبلوماسيين الأوربيين على مشارف مخيم "جنين"،
والتهديدات الأوروبية الأوسع بفرض عقوبات على الكيان .
وقد يرى البعض
، أن الحراك الأوروبى الرسمى ليس كافيا بعد ، وهذا صحيح طبعا ، وإن كان لا يصح
إنكار ما جرى من تغير نسبى ، دفعت إليه تراكمات مظاهرات الشارع الغاضبة فى بيئة
ديمقراطية ، لعبت فيها الجاليات الفلسطينية والعربية دورا بارزا ومؤسسا ، فقد تكفل
فلسطينيو أوروبا بدعم ونصرة شعبهم الفلسطينى فى الداخل المحتل ، تماما كما أن صمود
"غزة" الأسطورى وصبرها المحتسب ، لعب الدور الأعظم فى إيقاظ الضمائر ،
ودفع غالب الحكومات الأوروبية إلى لغة أفضل .
Kandel2002@hotmail.com

0 comments:
إرسال تعليق