قبل أكثر من شهر ، وبتاريخ 15 مارس 2025 ، كتبت فى هذا المكان نفسه مقالا بعنوان " لا لنزع سلاح المقاومة" ، كانت المناسبة وقتها ما جرى من اتصال وحيد لإدارة الرئيس الأمريكى "دونالد ترامب" مع قادة من حركة "حماس" فى "الدوحة" ، وخروج "آدم بولر" مبعوث "ترامب" لشئون الرهائن الأمريكيين و"الإسرائيليين" فى "غزة"، والإدلاء بأحاديث لعدد كبير من قنوات التليفزيون الأمريكية و"الإسرائيلية" ، وكشفه عن فحوى التفاوض المباشر مع "حماس" المصنفة "إرهابية" فى واشنطن من العام 1997 ، وقال "بولر" وقتها ، أن مفاوضاته مع "حماس" دارت حول نزع سلاح المقاومة وحل أجنحتها العسكرية ، والبحث عن عقد هدنة مطولة قد تستمر لعشر سنوات ، وهو ما أكدته تصريحات صدرت عن قادة من "حماس" وقتها ، أعربت عن استعدادها لتقبل مبدأ الهدنة المطولة ، ولكن مع رفض نزع سلاح "حماس" وغيرها من حركات المقاومة الفلسطينية ، وفى غمرة الجدال الدائر وقتها ، قال "بولر" أنه أجرى الاتصال مع "حماس" بأوامر مباشرة من "ترامب" ، ثم بلغت حماسته الذروة ، حين قال "أننا نبحث عن مصلحة أمريكا الخاصة ، ولسنا عملاء لإسرائيل" ، وكانت تلك هى القشة التى قصمت ظهر بعير "بولر" ، فقد تحركت حكومة "بنيامين نتنياهو" بسرعة للضغط فى واشنطن ، وأرسلت "رون ديرمر" وزير الاتصالات الاستراتيجية ، وكانت النتيجة إزاحة "بولر" فورا ، وإن عاد وظهر أخيرا على مسرح التفاوض المباشر مع حماس ، و"بولر" رجل أعمال يهودى صهيونى ، تماما كما "ستيف ويتكوف" مبعوث "ترامب " إلى الشرق الأوسط وروسيا وغيرها ، وإعلانه ـ قبل "بولر" وبعده ـ عن اشتراط نزع سلاح "حماس" فى أى تفاوض لوقف حرب الإبادة الجماعية على "غزة" .
وفى
18 مارس الماضى ، أعلنت حكومة "نتنياهو" عن استئناف حرب الإبادة ، وسبقتها
بحرب تجويع منذ 2 مارس ، وإغلاق تام لكافة المعابر إلى غزة ، ومنع دخول الغذاء والدواء
، وقطع خط الكهرباء الوحيد إلى محطة صغيرة لتحلية المياه فى غرب "خان يونس"
، مع قصف وتدمير لاحق لخط وحيد لنقل المياه شرق مدينة "غزة" ، وإغلاق وتدمير
أغلب آبار المياه ، وهكذا اكتملت دوائر التعطيش والتجويع فى الخمسين يوما الأخيرة ،
مع إشهار عمل وكالة أنشأتها "إسرائيل" لتنفيذ ما أسمته حملة التهجير
"الطوعى" لسكان "غزة" ، وفتح المنافذ فى مطار "رامون"
بالنقب وميناء "أسدود" على البحر المتوسط ، وأعلنت عن النجاح فى تسفير مئات
من "الغزيين" إلى "أندونيسيا" وعشرات آخرين إلى "ألمانيا"
، وإن انطوت القصة كلها على مبالغات وتزوير فج ، زادت معه وتيرة القصف بالطائرات المقاتلة
والأخرى المسيرة والمدفعية على سكان "غزة" ، وإصدار أوامر بالإخلاء الفورى
، طالت قطاع "غزة" من شماله إلى جنوبه ، وبلغت ذروتها بأوامر الإخلاء الفورى
الشامل لسكان "رفح" واحتلال منطقة رفح بكاملها ، وإنشاء خط "موراج"
الفاصل بين "رفح" و"خان يونس" ، والذى اعتبره "نتنياهو"
خط "فيلادلفيا" آخر ، فى إشارة إلى سابقة احتلال "إسرائيل" لمحور
"فيلادلفيا" (صلاح الدين) عند حدود "غزة" مع سيناء المصرية ، وكانت
نتائج القصف والحملة الدموية إلى اليوم ، أن أضيف ما يقارب الألفى شهيد فلسطينى إلى
مئتى ألف شهيد وجريح ومفقود قبل وقف إطلاق النار الموقوت المثقوب فى 19 يناير 2025
، الذى اعتبرته إدارة "ترامب" إنجازها الأول ، تماما كما أطلقت إدارة
"ترامب" نفسها يد نتنياهو فى خرق الاتفاق ، وفى استئناف حرب الإبادة بعدها
، وتزويد "إسرائيل" بأسلحة أمريكية جديدة بقيمة ثمانية مليارات دولار ، بينها
40 ألفا من القنابل الضخمة الخارقة للتحصينات ، تزن الواحدة منها ألفى رطل ، ورغم مباهاة
"نتنياهو" وجيشه بإعادة احتلال أكثر من 30 بالمئة من قطاع "غزة"
، وجعل أكثر من مليونى فلسطينى فى أحوال بؤس مفزع ، يهيمون على وجوههم صباح مساء ،
وإجبارهم على النزوح من أماكنهم لعشرات المرات ، ومن دون غذاء ولا ماء ولا دواء ، مع
قصف وتدمير ما تبقى من مستشفيات ، وتحدى كل نداءات الدول والمنظمات الأممية ، وتوقف
كل المخابز ، واهتراء خيام اللجوء ، واتصال مشاهد مئات الآلاف من الفلسطينيين فى رحلة
العذاب اليومى ، وهم يبحثون عن حفنة طعام فى "التكايا" الخيرية ، ويعود أغلبهم
بالأوانى الفارغة إلى ما تبقى من خيام وبطون خاوية ، ومن دون الحصول على شربة ماء إلا
فيما ندر ، إلا أن الشعب الفلسطينى ظل يواصل حركته الدائرية الحلزونية الدائبة ، ويحتمل
عذابا وتجويعا وتقتيلا وتقطيعا للأشلاء بما يفوق كل خيال أسود ، ويفشل خطة التهجير
التى تواصلها "إسرائيل" تنفيذا كما تقول لتصور "ترامب" ، إلا أن
الأخير فيما يبدو ، ضاق بعجز "إسرائيل" رغم إتاحة الفرصة الكاملة لها ، ومواصلة
حرب الإبادة المجنونة عبر 560 يوما من الحرب إلى اليوم ، وبدا "ترامب" فى
لقائه الأخير مع "نتنياهو" فى حالة ضيق ظاهر من طول المدة ، واعتبر أن
"إسرائيل" أخطأت بالخروج من "غزة" عام 2005 ، وبدا أن "ترامب"
يريد وقف إطلاق نار وهدوءا قبل القيام بزيارته المقررة لدول خليجية غنية فى مايو المقبل
، التى يطمع من خلالها فى جنى تريليونات الدولارات الموعودة ، وهو ما حرك جهودا فى
الكواليس سعيا لوقف إطلاق نار موقوت فى "غزة" ، ونشطت اقتراحات للوسطاء ،
كان بينها اقتراح مصرى وافقت عليه "حماس" ، يقضى بإطلاق سراح ثمانية من المحتجزين
الأمريكيين و"الإسرائيليين" الأحياء وثمانى جثث مقابل مئات من الأسرى الفلسطينيين
، ومقابل هدنة تستمر إلى نحو سبعين يوما ، وردت "إسرائيل" على المقترح المصرى
باقتراح مقابل ، يزيد عدد الرهائن الأحياء المطلوب إطلاق سراحهم إلى 10 أو 11 ، ويقلص
مدة الهدنة إلى أربعين يوما ، تجرى خلالها مفاوضات لوقف الحرب ، ولكن مع وضع شروط
"إسرائيلية" مسبقة ، أهمها أن تبقى قوات الاحتلال فى "غزة" دون
انسحاب كامل ، وأن تقبل "حماس" البحث فى خطة التهجير التى سبق أن اقترحها
"ترامب" ، وأن تنزع حماس سلاحها ، ويجرى ترحيل قادة جناحها العسكرى إلى خارج
"غزة" ، وأن تسلم خرائط بمواقعها الحربية وأنفاقها ومخازن سلاحها ، وقد كشفت
وسائل الإعلام "الإسرائيلية" عن شروط "نتنياهو" ، الذى يواجه مآزق
داخلية متزايدة الأثر ، أبرزها سلاسل بيانات ضباط وجنود الاحتياط فى الجيش والشرطة
، وعشرات الآلاف من الكتاب والأكاديميين والأطباء والضباط السابقين والقادة فى
"الموساد" ، ورؤساء أركان الجيش السابقين من "إيهود باراك" إلى
"دان حالوتس" ، وهى احتجاجات غير مسبوقة باتساعها فى تاريخ كيان الاحتلال
منذ وجد ، وكلها تطالب بوقف الحرب مقابل إعادة المحتجزين "الإسرائيليين"
لدى "حماس" ، وعددهم 59 بين أحياء وأموات .
و"نتنياهو"
يعرف بالطبع ، أن "حماس" لن تقبل أيا من شروطه ، وبالذات اقتراحه بنزع سلاح
"حماس" وأخواتها ، أو قبول خطة تهجير الفلسطينيين التى يرفضها الوسيط المصرى
تماما ، وإن كان نقل شروط "نتنياهو" إلى مفاوضى "حماس" فى سياق
دور الوساطة ، ومعلوم أن "نزع سلاح حماس" ليس مطلبا ولا اقتراحا مصريا من
أصله ، خلافا لما ادعته دوائر إعلامية مريبة متكاملة مع الدعاية "الإسرائيلية"
، وهو ما كذبته الدوائر المصرية ، وكانت مصر ولا تزال ـ كما هو معروف ـ أعلى الأصوات
رفضا لخطة "ترامب" لتهجير الفلسطينيين ، وقدمت فى المقابل خطة مدروسة لإعادة
إعمار "غزة" دون خروج فلسطينى واحد من أرضه ، ولم يرد ذكر لنزع السلاح فى
نص "الخطة المصرية " التى اعتمدت كخطة عربية شاملة فى قمة 4 مارس الماضى
، وخلت من أدنى إشارة إلى نزع سلاح "حماس" وحركات المقاومة ، وإن أشارت الخطة
بوضوح إلى تنظيم جديد للسلطة فى "غزة" بعد توقف الحرب ، من خلال "لجنة
إسناد" مكونة من 15 شخصا ، ليس بينهم أحد من "حماس" ولا من "فتح"
، وتوكل إلى "لجنة الإسناد" إدارة "غزة" بتفويض من السلطة الفلسطينية
المعترف بها دوليا ، ووافقت "حماس" على المقترح المصرى بالكامل سرا وعلنا
، وفى عشرات التصريحات التى صدرت عن قادة "حماس" السياسيين ، جرى التأكيد
على تأييد فكرة "لجنة الإسناد" كحكومة تكنوقراط فلسطينية مؤقتة لمدة 6 شهور
، تجرى بعدها انتخابات عامة فى "غزة" والضفة والقدس لاختيار حكومة فلسطينية
موحدة ، وإسرائيل ـ كما أمريكا ـ أعلنت رفضها للخطة المصرية ، ولسبب رئيسى ، هو أنها
لا تتطرق بحرف إلى نزع سلاح "حماس" وأخواتها ، وهو ما كان موضع امتعاض حتى
من أنظمة عربية معروفة ، تؤيد المطلب الأمريكى "الإسرائيلى" بنزع سلاح المقاومة
، وخفضت مستوى تمثيلها فى قمة 4 مارس بالقاهرة ، وتراجعت ضمنيا عن تعهدات سبقت بتمويل
خطة إعادة إعمار "غزة" ، وتدرك تماما أن نزع سلاح المقاومة إن جرى لا قدر
الله ، هو أقصر الطرق لمذبحة مليونية تطرد الفلسطينيين من وطنهم .
Kandel2002@hotmail.com

0 comments:
إرسال تعليق