إن السودان ظل تحت حكم انفرادي محتكر من الحركة الإسلامية، ليشهد على مدار 30 عاما كل ألوان الفشل حتى وصل إلى فقدان خمس مساحته في الجنوب وثلث عدد سكانه بعد انفضال جنوب السودان، بالإضافة إلى مناطق في الشمال والشرق نتيجة الحروب.
ومنذ أول يوم في الاحتجاجات التي تحولت إلى ثورة أطاحت بالرئيس السوداني عمر البشير، كانت هتافات” تسقط الكيزان” جزءا أصيلا من شعارات الشارع المنتفض ضد حكم “الإخوان” الذي استمر 30 عاما وقضى على كل مظاهر الدولة. واعتاد السودانيون إطلاق وصف “الكيزان” على رموز الحركة الإسلامية التي حكمت البلاد،
وبينما تتباين ظروف ونشأة التوصيف، فإنه أصبح ملتصقا بشكل سلبي بممارساتهم في السلطة، حتى أصبح التخلص من عبء الإخوان أهم التحديات التي تنتظر السودانيين في مرحلة ما بعد البشير.
ولا يمكن إغفال المسميات في بلد مثل السودان، فالانقلاب العسكري الذي أطاح بحكومة منتخبة قبل 30 عاما، أطلق على نفسه “ثورة الإنقاذ الوطني”، لكنه في الحقيقة نقل البلاد من الديمقراطية وأعادها إلى ديكتاتورية “دينية”. فبعدما قاد زعيم الجبهة الإسلامية القومية في السودان حسن الترابي الانقلاب على حكومة الصادق المهدي والرئيس أحمد الميرغني، تسلم الضابط عمر البشير الذي كان عضوا في الجبهة، السلطة، ليحصل السودانيون على مزيج من الحكم الإسلامي العسكري.
منذ تأسيسها في أواخر الأربعينات من القرن الماضي على يد علي طالب الله وجمال السنهوري، انشقت جماعة الإخوان في السودان عديد المرات، أولها كان انشقاق بابكر كرار عن «مؤتمر النادي الثقافي» وتأسيسه لـ «الحزب الاشتراكي الإسلامي»، أيام كان لكلمة الاشتراكية رنينها في الخمسينات،
وكان هذا الانشقاق انشقاقا صغيرا لم يؤثر كثيرا على الجماعة، وليس مثل الانشقاقات الكبرى. فقد عرفت جماعة الإخوان المسلمين السودانية ثلاثة انشقاقات كبرى في تاريخها: الأول كان يوم خرج حسن الترابي على فكر الإخوان مكونا تنظيمه الخاص، ومتبرئا من موروث حسن البنا الفكري، ومعلنا تدشين ما سماه «الجبهة الإسلامية القومية».
والانشقاق الثاني هو انشقاق مجموعة الشيخ سليمان أبونارو في 1991م، والذي رأى أن الجماعة ظلمته عندما لم تسمح له أن يصلحها بالسلفية عندما فاز في المؤتمر العام، وقرر أن يجمع بين محمد بن عبد الوهاب وحسن البنا، ورأى أن المنهج التربوي عند الإخوان ناقص مالم يدرسوا «كتاب التوحيد» و«كشف الشبهات» لمحمد بن عبد الوهاب في الأسر التنظيمية. الانشقاق الثالث هو خروج «مجموعة الإصلاح» على سليمان أبو نارو، بسبب ما رأوه انحرافا لم يطيقوه عن منهج الإخوان، ثم اندماج هذه المجموعة مع الجماعة الأم في وحدة طوعية في العام الماضي.
ويبدو أن الانشقاق الرابع أصبح قريبا، لكنه هذه المرة بين رفقاء الأمس؛ الشيخ الحبر يوسف نور الدائم، والشيخ علي جاويش اللذيْن رفضا معا في السبعينات انحراف الترابي عن منهج جماعة الإخوان المسلمين وأصرّا على المنهج والاسم. يرى المتابعون أن هناك أزمة عاصفة تعاني منها جماعة الإخوان المسلمين السودانية هذه الأيام وهذه الأزمة هي بسبب قرار المراقب العام للجماعة الشيخ علي جاويش حل مجلس الشورى المنتخب وتأجيل المؤتمر العام للجماعة لأجل غير مسمى.
لهذه الأزمة أبعاد إقليمية بلا شك، فهناك أزمة تعصف بجماعة الإخوان في الإقليم كله غداة فشل مشروع الرهان على الربيع العربي والتغيير الديمقراطي وأزمة الجماعة الأم في مصر والتي هي مشتتة بين جناح عزت وجناح منتصر، وهذه الأزمة دفعت بالنهضة لفك الارتباط مع إخوان مصر، وكذلك دفعت إخوان الأردن لنفس الشيء.
طرفا الأزمة في السودان
1. طرف المراقب العام
حسب بيان المراقب العام للجماعة الشيخ علي جاويش فإنه اتخذ قراره بحل مجلس الشورى بسبب ما أسماه: محاولات جيوب حرف خط الجماعة عبر محاولتهم إخراج الجماعة من التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وترفيع أعضاء للمؤتمر العام دون المرور بأمانة التربية والعضوية، وأن هذه المجموعة أعلنت أنها ترغب بتحويل الجماعة لحزب سياسي. ولذلك، ولحماية الجماعة من هذه الجيوب، اختار فضيلة المراقب العام حل مجلس الشورى لكي يحمي الجماعة منهم.
2. مجلس الشورى
اجتمع مجلس شورى الجماعة بشكل طارئ ونظر في قرارات المراقب العام فوجدها تهدد وحدة الجماعة ولها تداعيات سالبة جدا؛ فقرر المجلس اتخاذ قرارات حاسمة هي: عزل المراقب العام الشيخ علي جاويش، وتجميد عضوية أعضاء المكتب التنفيذي الذين أيدوه، ومبايعة المراقب العام السابق للجماعة، الشيخ الحبر يوسف نور الدائم، مراقبا عاما مؤقتا لحين انعقاد المؤتمر العام.
وقد حظيت هذه القرارات بتأييد القيادة التاريخية للجماعة الممثلة في الشيخ صادق عبد الله عبد الماجد، أول سوداني يبايع الإمام حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان.
ما هو موقف التنظيم الدولي من الإخوان؟
رغم التسريبات المتلاحقة التي خرجت من مجموعة محمد منتصر في مصر والتي تتهم التنظيم الدولي بالتسبب في هذا الاختلاف و الانشقاق بين إخوان السودان؛ إلا أن الأستاذ إبراهيم منير القيادي في التنظيم الدولي للإخوان صرح لقدس برس أن «الجماعة فوجئت بالأخبار الواردة من إخوان السودان، وأنها لا تعلم شيئا عن الخلافات الداخلية بينهم». وأضاف: «التطورات الجارية لدى إخوان السودان شأن داخلي خاص بهم، لا علاقة للإخوان في مصر بها لا من قريب ولا من بعيد». وقال منير أنه نصح الجماعة بالاحتكام لمحايدين محليين لحل خلافاتهم الداخلية. غير أن الصحافة المصرية كان لها رأي مختلف؛ إذ نشرت صحيفة اليوم السابع نقلا عن من وصفتهم بالمصادر الخاصة داخل الإخوان المسلمين أن أفراد جماعة الإخوان المسلمين المصريين بدأوا في الخروج من السودان باتجاه تركيا بعد هذه القرارات.
يعتقد مراقبون أن المحاولات للصلح بين طرفي الجماعة في السودان أصبحت مستحيلة، بسبب تشبث كلا الطرفين برأيه، واعتقاده أنه على الحق وأن الطرف الآخر هو المخطئ، وأن الجماعة لن تهنأ بالوحدة التي أُعلنت في العام الماضي، فقدر جماعة الإخوان السودانية فيما يبدو هو التشظي حيث يوجد فيها صراع أجيال مثل الصراع المنتشر في بقية الأحزاب والتيارات السودانية. فجماعة أنصار السنة في السودان جماعتان.
والحزب الحاكم نفسه انشق أيام الترابي إلى قسمين: المؤتمر الوطني بقيادة البشير، والمؤتمر الشعبي بقيادة الترابي. وحزب الأمة تبعثر إلى 7 أحزاب، وحزب الاتحادي إلى 4 أحزاب، والبعثيين إلى 3 أحزاب، والحزب الشيوعي السوداني مرشح لانقسام قريب بين مجموعة الشفيع خضر و مجموعة الخطيب و…المهم في الأمر حقيقة: هل فعلا أن المجموعة الجديدة لإخوان السودان تحمل تصورات جديدة للدولة ولإدارة مجتمع متعدد، أم إن خلافها مع مجموعة المراقب العام كان مجرد خلاف تنظيمي وهناك من قرر إلباسه بالثوب الفكري والسياسي. كذلك سعى البشير للتدخل في شؤون الدول المجاورة (إثيوبيا، ومصر، وإرتيريا) عبر دعم الحركات الإسلاموية الساعية للاستيلاء على السلطة في تلك الدول. وفوق هذا وذاك، شرع في تهديد المجتمع الدولي وعلى رأسه أكبر قوتين عظميين حينها، أميركا وروسيا، باستعادة الخلافة الإسلامية، فضلا عن فتح أراضي السودان لاستضافة الجماعات الإسلامية المتطرفة من جميع أنحاء العالم، وفي مقدمتها تنظيم القاعدة وزعيمه أسامة بن لادن.
بعد عشر سنوات من الحكم وقع الطلاق بين الجنرال البشير وزعيم الجماعة الترابي، وانقسمت الجماعة إلى فريقين، انحاز أكبرهما لصالح السلطة، وذهبت أقلية مع المرشد الروحي. كانت البلاد حينها قد تحولت إلى زنزانة كبيرة تحكمها قبضة الأجهزة الأمنية الرسمية ومليشيات جماعة الإخوان المسلمين الموازية التي تعمل خارج إطار القانون، وصار القمع والتنكيل بالمعارضين هو العنوان الأبرز للنظام الحاكم الذي بدأ في التحول التدريجي من سيطرة الطغمة إلى حكم الفرد الطاغية.
أبرز ملامح حكم الجنرال تمثلت في انتشار الفساد والمحسوبية بصورة غير مسبوقة في تاريخ السودان الحديث، كما أنه تسبب في انفصال جنوب السودان بعد أن شن عليه حربا جهادية طويلة؛ إضافة لإشعاله الحروب الأهلية في النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور التي قتل فيها ثلاثمئة ألف مواطن ونزح ما يربو على ثلاثة ملايين لدول الجوار. تراجع الاقتصاد بشكل مريع في ظل حكم البشير، مما أدى لازدياد حدة الفقر وهجرة الملايين، وبرزت فئة طفيلية من الموالين للسلطة استولت على ثروات البلد ومواردها وفي مقدمتها البترول، بينما عانت غالبية فئات الشعب من المسغبة والجوع وضيق العيش.
0 comments:
إرسال تعليق