أن العدالة الاجتماعية ليست وليدة هذه الأيام بل هي قيمة إنسانية جوهرية تعود أصولها إلى الأديان السماوية الثلاثة (اليهودية – المسيحية – الإسلام)، التي أكدت جميعها على ضرورة تحقيقها، ثم جاءت الفلسفة السياسية الحديثة والمعاصرة لتقدم تفسيرات لها أن السلام الشامل لا يتحقق سوى بتحقيق العدالة الاجتماعية.
وللعدالة الاجتماعية مظاهر ومرتكزات عدة، باعتبارها مرجعية معيارية لكل القيم الإنسانية، فهي من جهة عدالة مبدأ تكافئ الفرص وعدالة في توزيع الناتج الداخلي المحلي وهي عدالة في تحمل الأعباء العامة، وتحديدا المجال الضريبي، وهي عدالة المساواة في الاستفادة من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية الممنوحة داخل المجتمع.
أن مصر كانت سباقة في تطبيق سياسة القطاع العام، وعندما انتقلت لسياسة الانفتاح الاقتصادي ومنها إلى الخصخصة تبعتها دول عدة، حيث كانت مصر وقتئذ مركز الثقل الاقتصادي العربي قبل أن تنتقل بوصلة هذا المركز صوب الشرق، وتحديدا نحو دول الخليج العربي، بعد أن أصبح النفط السلعة الأهم لكافة دول العالم، كونه مصدر الطاقة الرئيس حتى يومنا هذا.
أن جوهر العدالة الاجتماعية هو المساواة والتضامن واحترام حقوق الإنسان وكرامته، وأن تطبيقها يتضمن المساواة في الفرص، وعدالة التوزيع في الدخل، وكذلك عدالة توزيع الثروة. وبعبارة أخرى، يمكن إجمال عناصر العدالة الاجتماعية وأبعادها المتعددة في ثمانية أبعاد:
الأول، البعد أو العنصر الاقتصادي: المتعلق بمدى اشتراك مواطني الدولة ككل في العملية الإنتاجية والتنموية وفى الاستفادة من مخرجاتها.
وهو الأمر الذي يؤدي إلى المساواة في الفرص المجتمعية المتاحة والحقوق الاقتصادية في مجال العمل وملكية وسائل الإنتاج والحصول على الخدمات والمعلومات دون تمييز.
الثاني، البعد الاجتماعي: المتعلق بإشكاليات الفقر والإقصاء والاستبعاد الاجتماعي، وما يستدعيه الأمر من سياسات عمومية لتمكين الطبقات الفقيرة من تحسين أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية. الثالث، البعد البشري: ينصب على مسألة الالتزام بحقوق الإنسان وحاجاته الأساسية، ومسألة تكافؤ الفرص أمام جميع أفراد المجتمع.
الرابع، البعد المتعلق بالتقسيم الطبقي للمجتمع: ويستهدف إبراز العلاقة الوثيقة بين النظام الاقتصادي والاجتماعي السائد وبين العدالة الاجتماعية، ويطرح هنا قضية الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج التي تفرز في ضوئها طبقات المجتمع، كما أن غياب أو تأثر هذه العدالة يعني وجود تفاوت طبقي وهوة بين الأغنياء والفقراء.
الخامس، البعد الجهوي: المتعلق بالتفاوتات المجالية داخل تراب الدولة، في توزيع الموارد المالية. السادس، البعد السياسي والمؤسسي: يرتبط بمسائل: الحريات والحقوق السياسية والمشاركة السياسية من خلال مؤسسات وطنية تسهم في صُنع القرارات العامة الوطنية.
السابع، البعد المتصل بالعدالة بين الأجيال: أي العدالة بين الأجيال الحاضرة والأجيال المقبلة؛ ليس فقط في توزيع الموارد الطبيعية والصناعية وما إلى ذلك، ولكن أيضا في تحمل أعباء الدين العام.
الثامن، البعد المتعلق بالعلاقات الخارجية للدولة: وهو بعد يتعلق بنوعية العلاقات التي تنشأ بين الدولة والدول الأخرى في إطار المنتظم الدولي، ومدى تكافؤها أو ميلها لدولة على حساب دولة أخرى، فتحقيق العدالة الاجتماعية يقتضي التحرر من الاستغلال في الداخل، فإنه يقتضي كذلك التحرر من الاستغلال من الخارج أي التبعية بمختلف تمظهراتها السياسية والاقتصادية.
ومن ثم فإن تحقيق العدالة الاجتماعية بالمعنى الواسع يستلزم تحرير الإرادة الوطنية من قيود التبعية، وتحكيم القرار الوطني في مختلف الملفات والقضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. لكن على الرغم مما تم التطرق إليه، وجب التوضيح،
أن مبادئ وأبعاد العدالة الاجتماعية حسب: "ماريون يونغ" Marion Young ليست بالمبادئ الواضحة التي تلقى القبول العام، ذلك إن ما يعتبره البعض حقوقا لا يراه البعض الآخر كذلك، من الصحيح تماما أن تجسيد شعار العدالة الاجتماعية في كل نضال لا يعني أوتوماتيكيا استمرار الثورة وبالتالي انتصارها،
وصحيح أن العمال لعبوا دورا مركزيا في إسقاط مبارك دون أن يخرجوا من معارك الثورة بدرجة أعلى من التنظيم والتسيس، ولكن تظل المسئولية لتحقيق مطالب الثورة وانتصارها جماهيريا تقع على عاتق القوى الاجتماعية والجذرية وحدها عبر لعب دور القاطرة في إظهار الطابع الاجتماعي والطبقي للحركة بعيدا عن الرطان السياسي النخبوي الأجوف
والذي يسبح في فضاء أجندة السلطة دون أن يمس واقع حال الجماهير العريضة صاحبة المصلحة في أن تكون السياسية الصحيحة انعكاسا وتعبيرا عن أوضاع اجتماعية متساوية. فالعدالة الاجتماعية لا تقوم على مبادئ عامة مجردة يمكن إسقاطها على ممارسات ومواقف محددة في كل المجتمعات".
وفي ضوء ذلك فإن، العدالة الاجتماعية تبقى عملية نسبية ومفهوم مبهم متعدد الأبعاد، أي أنها لا تعني المساواة الكاملة أو المطلقة، فهي خاضعة لمسألة التفاضل الاجتماعي والفروق في قدرات ومؤهلات وقابليات الأفراد داخل المجتمع الواحد، لكنها لا تعني في الوقت نفسه التفاوت بين الأفراد الذي تتدخل فيه مجموعة من الاعتبارات كـ "الأصول الاجتماعية" أو "الأصول العرقية" أو "الفروق بين الجنسين"، طبقية كانت أو متعلقة بهرم الدولة.
وقد تكفل الدستور المصري لعام 2014 بتقرير مبدأ العدالة الاجتماعية في أكثر من نص صريح. ففي الباب الخاص بالمقومات الأساسية للمجتمع وفى الفصل الأول منه المعنون بالمقومات الاجتماعية، جاء نص الدستور عند حديثه عن المقوم الاجتماعي للمجتمع ذاكراً أنه ” يقوم المجتمع على التضامن الاجتماعي.
وتلتزم الدولة بتحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير سبل التكافل الاجتماعي، بما يخص الحياة الكريمة لجميع المواطنين، على النحو الذي ينظمه القانون”. فهذا النص هو أول النصوص الدستورية الذي يفرض الإلزام الصريح على الدولة بتحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير سبل التكافل الاجتماعي.
وعند حديثه عن نظام الضرائب جاء دستور 2014 بتطورات هامة في هذا الصدد حيث تضمن الدستور نصاً صريحاً يقرر أن ” يهدف النظام الضريبي وغيره من التكاليف العامة إلى تنمية موارد الدولة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والتنمية الاقتصادية. لا يكون إنشاء الضرائب العامة، أو تعديلها، أو إلغاؤها، إلا بقانون، ولا يجوز الإعفاء منها إلا في الأحوال المبينة في القانون، ولا يجوز تكليف أحد أداء غير ذلك من الضرائب، أو الرسوم إلا في حدود القانون.
ويراعى في فرض الضرائب أن تكون متعددة المصادر وتكون الضرائب على دخول الأفراد تصاعدية متعددة الشرائح وفقاّ لقدراتهم التكليفية، ويكفل النظام الضريبي تشجيع الأنشطة الاقتصادية كثيفة العمالة، وتحفيز دورها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. تلتزم الدولة بالارتقاء بالنظام الضريبي،
وتبنى النظم الحديثة التي تحقق الكفاءة واليسر والإحكام في تحصيل الضرائب، ويحدد القانون طرق وأدوات تحصيل الضرائب والرسوم وأي متحصلات سيادية أخرى، وما يودع منها في الخزانة العامة للدولة وأداء الضرائب واجب، والتهرب الضريبي جريمة “. وبهذا النص يكون المشرع الدستوري قد جعل الهدف من النظام الضريبي تنمية موارد الدولة والتنمية الاقتصادية ولم يقصره فقط على إعادة توزيع الدخل.
والجديد الذي جاء به تعديل 2014 هو تلبية مطالب المتخصصين في المجال الضريبي من جعل الضرائب تصاعدية على الدخول، وهي بلا شك الأداة الضريبية الأكثر تحقيقاً للعدالة، وهذا يعد تطوراً ايجابياً محموداً للمشرع.
وعند حديثه في الباب الثالث المعنون الحقوق والحريات والواجبات العامة قرر الدستور فيما يتعلق بحق المسكن أن ” تكفل الدولة للمواطنين الحق في المسكن الملائم والأمن الصحي، بما يحفظ الكرامة الإنسانية ويحقق العدالة الاجتماعية.
وتلتزم الدولة بوضع خطة وطنية للإسكان تراعى الخصوصية البيئية، وتكفل إسهام المبادرات الذاتية والتعاونية فتنفيذها، وتنظيم استخدام أراضي الدولة ومدها بالمرافق الأساسية في إطار تخطيط عمراني شامل للمدن والقرى، واستراتيجية لتوزيع السكان، بما يحقق الصالح العام وتحسين نوعية الحياة للمواطنين
ويحفظ حقوق الأجيال القادمة. كما تلتزم الدولة بوضع خطة شاملة لمواجهة مشكلة العشوائيات تشمل اعادة التخطيط وتوفير البنية الأساسية والمرافق، وتحسين نوعية الحياة والصحة العامة، كما تكفل توفير الموارد الازمة للتنفيذ خلال مدة زمنية محددة “.وهذه المادة جاءت بتفصيل أكثر حول التزام الدولة بتوفير المسكن الملائم من خلال خطة وطنية وفى إطار العدالة الاجتماعية. وتميزت هذه المادة بالنص على التزام الدولة بمواجهة قضية العشوائيات خلال فترة زمنية، وإن لم تحدد هذه الفترة.
**كاتب المقال
دكتور القانون العام
ونائب رئيس اتحاد الاكاديميين العرب
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان
مدير مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية
مستشار وعضو مجلس الإدارة بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا
مستشار الهيئة العليا للشؤون القانونية والاقتصادية بالاتحاد الدولي لشباب الأزهر والصوفية
مستشار تحكيم دولي محكم دولي معتمد خبير في جرائم امن المعلومات
نائب رئيس لجنة تقصي الحقائق بالمركز المصري الدولي لحقوق الانسان والتنمية
نائب رئيس لجنة حقوق الانسان بالأمم المتحدة سابقا
عضو استشاري بالمركز الأعلى للتدريب واعداد القادة
عضو منظمة التجارة الأوروبية
عضو لجنة مكافحة الفساد بالمجلس الأعلى لحقوق الانسان
محاضر دولي في حقوق الانسان
0 comments:
إرسال تعليق