هل بقي من يجادل في أن الطوفان كان بحق طوفانا جرف كل الأوهام التي كدّت الصهيونية والماسونية واجتهدت في إقرارها وترسيخها في الكتب والإعلام ووسائل التواصل بكل أنواعها ومكوناتها .
هل بقي
من يجادل في أنه قبل السابع من أكتوبر كانت إسرائيل، بنبيّها الجديد نتن ياهو، على
وشك أن تطوي وإلى الأبد صفحة قضية كان إسمها "القضية الفلسطينية" أو "قضية
المسجد الأقصى"، وكانت قاب قوسين أو أدنى من اتخاذ خطوة الحسم العسكري
النهائي، ومحو القضية الفلسطينية من الذاكرة الإسلامية ...
لقد
مهّدت الصهيونية لذلك جيدا، وبكل الوسائل، بتدجين كثير من النخب السياسية
والفكرية، واخترقت المؤسسات الثقافية وشبكات الإعلام ووضعت اليد على كل الوسائل
الدعائية، كبر شأنها أو قل، بل أدهى من ذلك، أنها استطاعت أن تصل إلى الحرم
الجامعي ـ والجامعة كما نعلم ويعلم الجميع، هي ضمير الأمة وعقلها وقلبهاـ وأن تجند
متصهينين كانت لهم القابلية لذلك.
بل يمكن أن نتحدث عن تقاطع الرؤى بين الصهيونية
وبين هذه النخبة المتغربة التي لا يتسع عقلها ولا قلبها إلى كل ما يمت بالإسلام
بصلة، فكرههم واضح بين، يسترونه بغطاء مسميات العقلانية والحداثة والتعايش والسلم
وحقوق الإنسان ، بل لا تطيق آذانهم سماع كلمة "إسلام" أو مصطلح "إسلامي"،
وتجفل عقولهم عند مناقشة كل خطاب يصدر عن تصور إسلامي .
هؤلاء
بدت عقولهم تربةً صالحة لاستنبات ونمو جرثومة التطبيع، ومحاولة استنباتها، من ثمَّ
في عقول الناشئة والطلبة، ولهذا السبب يستحيل أن تجد قاعديا أو متمزغا أو متعلمنا
يذكر المقاومة الإسلامية في فلسطين بخير إلا أن تكون مقاومة معدلة جينيا على نموذج
مقاومة دحلان، وحتى لو افترضنا أن المقاومة دخلت تل أبيب وطردت الصهاينة فلن
يزيدهم ذلك إلا حقدا إلى حقدهم الدفين؛ وفي مثل هؤلاء قال تعالى: (ولن ترضى عنك
اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم) .
وإني
لأعجب من بكائهم وشفقتهم على أهل غزة، وهم يتمنون في دواخلهم، ما تمناه شارون
يوما، لو يستيقظون في صباح يوم ليجدوا أن غزة قد ذهب بها البحر إلى غير رجعة.
وأعجب
من هذا أنهم يحسبون أنهم أهل عقل ونظر والناس
من حولهم عميان لا عقول لهم ولا ميزانٍ؟؟؟ .. فأن تخرج كل شعوب العالم في
مظاهرات واعتصامات في شوارع كل مدن العالم الغربي، كانت بالأمس القريب مرتعا
وقاعدة شعبية خلفية للفكرة الصهيونية، في باريس ومدريد وبروكسيل وستوكهولهم، بل
وفي واشنطن ونيويورك ولندن، تندد كلها وتعبر عن مساندتها للقضية الفلسطينية، وتعلن
كفرها بكل ما هو إسرائيلي، حتى صار اليهود منبوذون يخفون جنسيتهم.. فلا يساوي هذا
شيئا في نظر نخبتنا العقلانية..
وأن
يهاجر قرابة ثلث الصهاينة أرض فلسطين بدون نية الرجوع فلا يعد إنجازا..
أن تفقد
إسرائيل، وهي مدججة بآخر منتجات المصانع الأمريكية، وطرق الإمداد اللوجيستيكي
لديها لا تنقطع، أكثر من عشرة آلاف جندي بين قتيل وجريح ومعاق خارج عن الخدمة، في
معركة مع حفنة تصنع سلاحها بطرق بدائية محاصرة في بقعة مكشوفة لكل عيون الأقمار
والطائرات والدرونات، ليل نهار، فذلك في النظر الاستراتيجي عند المتصهينة لا يساوي
شيئا..
أن تخلق
السابع من أكتوبر ثورة في الضمير العالمي، كما تعبر عنه ملايير الناس عبر العالم،
وتمخر بواخر الأشراف والأحرار عباب البحر مخاطرة بأرواحها لتقدم النجدة لغزة وتقول
لها كلنا معك، أن تُشل روما بإضراب عام، ويمتنع عمال الموانئ عن تزويد السفن
الصهيونية .. وأن تجمع دول العالم وتعترف بحق الفلسطينيين في دولتهم، وأن ترفع
راية دولة فلسطين في باريس ولندن وكانتا بالأمس يرفضون مناقشة الأمر .. فليس ذلك،
في عرف العقلاء، بشيء..
أن تهجر
المؤسسات الاقتصادية والتجارية والمالية والتكنولوجية بلاد فلسطين، وترفض
الاستثمار، وتهاجر الأطر والكفاءات العلمية اليهودية دون رجعة.. فليس ذلك
بشيء
أن
تُزلزل السابع من أكتوبر أركانَ النظام العالمي السائد كما وضعت أسسه مخرجات الحرب
العالمية الثانية، وتمتحن حقيقته وفعاليته وتكشف صورية مؤسساته ومحاكمه، وتوقّع
على شهادة وفاته، وتطلق في المقابل شرارة إرهاصات ميلاد نظام عالمي جديد لا يزال
يعاني مخاض الخروج ومعادلات التشكل .. فليس ذلك بشيء..
أن تصير
فكرة زوال إسرائيل ليس فقط حلما ووعدا إسلاميا، بل حاجة ومطلبا عالميا لأجل السلم
العالمي بعد أن أيقن العالم وعبر عن ذلك بكل ألوان التعبير .. كانت الفكرة بالأمس
في حيز اللامفكر فيه وصارت الآن شرطا وحاجة عالمية تتعالى على حسابات الاستراتيجيا
الغربية والأمريكية بعد أن تغيرت كثير من معادلات الواقع العالمي، وأيام ترامب
معدودة وهو في الثمانين، وكذلك نتنياهو المريض، وحينها ترى المتصهينة ما تقر به
عينها ..
ومن
أراد أن يوازن، بعين العقل الموضوعي لا العقل المتصهين، بين مكتسبات الطرف
الفلسطيني والصهيوني فلن يعدم حقائق الواقع وأرقامه ودلالاتها وثقلها في ميزان
الاسترتيجيا .. فليس يليق أن نقارب قضية من حجم قضية فلسطين بما تختزله من تاريخ
ودلالات مقاربة اجتماعية تختزل القضية في جماعة تسكن مدينة يأكلون ويشربون
ويتناسلون ..
هل من
شعب نال حريته واستقلاله بدون مقاومة وجهاد ونضال وتضحية بالنفوس والدماء؟؟ ما ثمن
استقلال واشنطن عن لندن؟ الثمن كان حرق نصف مدن أمريكا؛ ما ثمن مقاومة روسيا ؟؟
ستة وعشرون مليون قتيل؛ كم قدم المغاربة
والأفارقة؟ لو أعملت هذه الدول ما يراه المتصهينة للمقاومة الفلسطينية لاندرس
أثرهم.. لو كان الميزان هو عد الضحايا والبطون الفارغة ما عاشت الأمم وحافظت على
وجودها..
لن أقول
للعقلاء المتصهينة أف لكم ولا تفو عليكم ولكن أقول لكم قوله تعالى: "فإنها لا
تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"

0 comments:
إرسال تعليق